تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم إنِّي نَبَّهْتُ فيه على أشياءَ رَكِبَ فيها الجَوْهَريُّ ـ رحمه الله ـ خِلافَ الصَّوَاب، غَيْرَ طَاعِنٍ فيه، ولا قاصدٍ بذلك تَنْديدًا له، وإزْراءً عليه، وغَضًَّا مِنْهُ، بل اسْتِيضاحًا لِلصَّوابِ، واسْتِرْباحًا لِلثَّواب، وتَحَرُّزًا وحِذَارًا مِنْ أنْ يُنْمَى إليَّ التَّصْحيف، أو يُعْزَى إليَّ الغَلَطُ والتَّحْرِيف. على أنِّي لَوْ رُمْتُ لِلنِّضال إيتارَ [شدَّ وَتر] القَوْس، لأَنْشَدْتُ بَيْتَيِ الطَّائِيِّ حَبيبِ بْنِ أوْس. ولو لم أخْشَ ما يَلْحَقُ المُزَكِّيَ نَفْسَهُ من المَعَرَّةِ والدَّمَان، لَتَمَثَّلْتُ بِقوْلِ أحْمَدَ بْنِ سُلَيمان؛ أديبِ مَعَرَّةِ النُّعْمان. ولكن أقُولُ كما قال أبو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ في "الكامِل"، وهو القائِلُ المُحِقّ:

لَيْسَ لِقِدَمِ العَهْدِ يُفَضَّلُ القائِلُ، ولا لِحِدْثانِهِ يُهْتَضَمُ المُصيبُ، ولكن يُعْطَى كُلٌّ ما يَسْتَحِقّ.

واخْتَصَصْتُ كِتابَ الجَوْهَرِيِّ من بيْنِ الكُتُبِ اللُّغَوِيَّة، مع ما فِي غالِبِها من الأْوهَامِ الواضِحَة، والأغْلاَطِ الفاضِحَة، لِتَداوُلِهِ واشْتِهارِهِ بخُصُوصِه، واعْتِمادِ المُدَرِّسينَ على نُقُولِهِ ونُصُوصِه.

وهذِهِ اللُّغَةُ الشَّرِيفَةُ، التي لم تَزَلْ تَرْفَعُ العَقِيرَةَ غِرِّيدَةُ بانِها، وتَصُوغُ ذَاتُ طَوْقِها بِقَدْرِ القُدْرَةِ فُنُونَ ألْحانِها، وإن دَارَتِ الدوائرُ على ذَوِيها، وأخْنَتْ على نَضَارَةِ رياضِ عَيْشِهِمْ تُذْوِيها، حَتَّى لا لَهَا اليَوْمَ دَارِس سِوَى الطَّلَلِ في المَدارِس، ولا مُجاوبَ إلاَّ الصَّدَى ما بَيْنَ أعْلامِها الدَّوَارِس، ولكن لم يَتَصَوَّح [يتشقَّقْ] في عَصْفِ تلكَ البَوارِح نَبْتُ تلك الأَباطِحِ أصْلاً ورَاسًا، ولم تُسْتَلَبِ الأعْوَادُ المُورِقَةُ عن آخرها، وإن أذْوَتِ اللَّيالِي غِرَاسًا. ولا تَتَساقَطُ عن عَذَباتِ أفْنانِ الألْسِنَةِ ثِمارُ اللِّسانِ العَرَبِي، ما اتَّقَتْ مُصادَمَةَ هُوجِ الزَّعازعِ بِمُناسَبَةِ الكِتابِ ودَوْلَةِ النَّبِي.

ولا يَشْنَأُ [يكره] هذه اللُّغَةَ الشَّريفَةَ، إلاَّ مَنِ اهْتافَ [رمى] به ريحُ الشَّقاء، ولا يَخْتارُ عليها، إلا مَنِ اعْتاضَ السَّافِيَةَ [الريح المتربة] من الشَّحْوَاء [البئر الواسعة غزيرة الماء]، أفادَتْها ميامِنُ أنْفاسِ المُسْتَجِنِّ بِطَيْبَةَ [المدينة المنوَّرة] طِيبًا، فَشَدَتْ بها أَيْكِيَّةُ النُّطْقِِ على فَنَنِ اللِّسانِ رَطيبًا، يَتَداوَلُها القَوْمُ ما ثَنَتِ الشَّمَالُ مَعاطِفَ غُصْن، ومَرَتِ الجَنُوبُ لِقْحَةَ مُزْن، اسْتِظْلاَلاً بِدَوْلَةِ مَنْ رَفَعَ مَنارَها فأعْلى، ودَلَّ على شَجَرةِ الخُلْدِ ومُلْكٍ لا يَبْلَى. وكَيْفَ لا، والفَصاحةُ أرَجٌ [ريحُ الطِّيب] بغَيرِ ثيابِه لا يَعْبَق، والسَّعادَةُ صَبٌّ [عاشق متيَّم] سِوَى تُرابِ بابِه لا يَعْشَق. شعر:

إذا تَنَفَّسَ مِنْ وادِيكَ رَيْحانُ تأرَّجَتْ من قَميص الصُّبْحِ أرْدانُ

وما أجْدَرَ هذا اللِّسانَ، ـ وهوَ حَبِيبُ النَّفْسِ، وعَشِيقُ الطَّبْع، وسَمِيرُ ضَميرِ الجَمْع، وقد وَقَفَ على ثَنِيَّةِ الوَدَاع، وهَمَّ قِبْلِيُّ مُزْنِهِ بالإِقْلاع ـ بأن يُعْتَنَقَ ضَمٌّا والْتِزامًا، كالأحِبَّةِ لدى التَّوْديع، ويُكْرَمَ بِنقْل الخُطُواتِ على آثارِهِ حالَةَ التَّشْيِيع. وإلى اليَوْمِ نالَ به القَوْمُ المَرَاتِبَ والحُظُوظ، وجَعَلُوا حَمَاطَةَ [صميم] جُلْجُلانِهِم [قلوبهم] لوْحَهُ المَحْفُوظ. وفاحَ من زَهْرِ تلك الخمائِل، وإن أخْطَأهُ صَوْبُ الغُيُوثِ الهَواطِل [الأمطار الغزيرة]، ما تَتَوَلَّعُ به الأرْواحُ لا الرِّياح، وتُزْهَى به الألْسُن لا الأغْصُن، ويُطْلِعُ طَلْعَةَ البَشَر لا الشَّجَر، ويَجْلُوهُ المَنْطِقُ السَّحَّار لا الأسْحار، تُصانُ عن الخبْطِ أوراقٌ عليها اشْتَمَلَتْ، ويَتَرَفَّعُ عن السُّقُوط نَضِيجُ ثَمَرٍ، أشْجارُهُ احْتَمَلَتْ، من لُطْفِ بَلاَغَةِ لِسانِهِم ما يَفْضَحُ فُرُوعَ الآسِ رَجَّلَ جَعْدَها ماشِطَةُ الصَّبَا [ريح الشَّمال اللطيفة]، ومن حُسنِ بيانِهِم ما اسْتَلَب الغُصْنَ رَشاقَتَهُ فَقَلِقَ اضْطِرابًا شاءَ أو أَبى. وللهِ صُبَابَةٌ [صفوةٌ باقية] من الخُلَفَاء

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير