فقال لها عمر رضي الله عنه: حتى متى يا خنساء؟ اتقي الله، وأيقني بالموت.
فقالت الخنساء: أنا أبكي أبي وخيريَّ مُضر: صخراً ومعاوية. وإني لموقنة بالموت.
فقال لها عمر رضي الله عنه: إن الذي تصنعين ليس من صُنعِ الإسلام، وإنّه لو خلّد أحدٌ لخلّد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وإن الذين تبكين هلكوا في الجاهلية، وقد صاروا جمراً في النار؟
فقالت: ذلك أطول لعويلي عليهم، ثم أنشدتْ شعرًا في ذلك.
فرَقَّ لها الخليفة عمر وقال: لا ألومك يا خنساء في البكاء عليهم، خلوا سبيل عجوزكم، لا أبا لكم، فكلِّ امرئٍ يبكي شجوه، ونام الخليُّ عن بكاء الشجيِّ.
9
الخنساء أم الشهداء
في معركة القادسية
لقد كان جميع أبناء الخنساء رضي الله عنها وعنهم من الشعراء الفرسان، وقد روى الزبير بن بكار بسنده الله عن أبي وجرة عن أبيه قال: حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد حرْبَ القادسية ومعها بنوها أربعة رجال، فقالت لهم من أول الليل:
"إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وَ والله الذي لا إله غيره أنكم لبنو رجُلٍ واحدٍ، كما أنكم بنو امرأةٍ واحدة، ما خُنْتُ أباكم، ولا فضحتُ خالَكم، ولا هَجّنتُ حسَبكم، ولا غيّرتُ نسَبكم، وقد تعلمون ما أعدَّ اللهُ لِلمُسلمين مِن الثواب الجزيل في حرْبِ الكافرين، واعلموا أنّ الدّار الباقية خيرٌ من الدُّنيا الفانية، يقول الله تعالى في كتابه العزيز: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" سورة آل عمران، الآية: 200.
فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين. فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرمت لظىً على سباقها، وجلّلت ناراً على أوراقها، فتيمَّموا وطيسَها، وجالدوا رئيسَها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالغُنْمِ والكرامة، في دار الخلد والمقامة".
وبعد خطبة الخنساء خرَج بنوها قابلين لِنُصْحِهَا، عازمين على قولها، فلما أضاء لهم الصُّبحُ باكروا مراكزَهم الجهادية في مُواجهة الفُرس المجوس، وأنشأ أولهم يقول:
يا إخوتي إنَّ العجوزَ الناصحهْ
قد نصَحَتْنا إذْ دَعَتْنا البارحهْ
مقالةٌ ذاتُ بيانٍ واضحهْ
فباكِروا الحربَ الضروسَ الكالِحَهْ
وإنَّمَا تلقونَ عِندَ الصَّائِحهْ
مِنْ آلِ ساسانَ كلاباً نابِحَهْ
قد أيقنوا مِنكُم بوقعِ الْجَائِحَهْ
وأنتم بين حياةٍ صالِحَهْ
أوْ مِيتةٍ تورِثُ غُنماً رابِحَهْ
وتقدم فقاتل حتى استشهد رحمه الله. ثم حمل على الفُرس المجوس أخوه الثاني وهو يقول:
إنَّ العجوزَ ذاتُ حَزْمٍ وَجَلَدْ
والنظرُ الأوفقُ، والرَّأيُ السَّدَدْ
قد أَمَرَتْنَا بِالسّدادِ وَالرَّشدْ
نصيحةً مِنها وَبَرًّا بالوَلَدْ
فَباكِروا الْحَرْبَ حُماةً في العَدَدْ
إمَّا لِفوزٍ باردٍ على الْكَبدْ
أوْ مِيتةٍ تُوْرِثُكُمْ غُنْمَ الأبدْ
في جَنَّةِ الفِرْدوسِ، والعيشِ الرَّغدْ
فقاتل إلى أن استشهد رحمه الله. ثم حمل أخوه الثالث وهو يقول:
واللهِ لا نَعْصِي العجوزَ حَرْفاْ
قد أمرتنا حرباً وعطفا
نصحاً وبراً صادقاً ولطفاً
فباكروا الحربَ الضَّروسَ زحْفا
حتى تلفوا آل ساسانَ لَفَّاْ
أوْ تكشِفوهُمْ عن حِمَاْكُمْ كَشْفَاْ
إِنَّاْ نَرَى التَّقصِيْرَ عنهم ضَعْفا
والقتلَ فيكم نجدةً وعرْفا
فقاتل حتى استشهد رحمه الله. ثم حمل أخوه الرابع وهو يقول:
لَسْتُ لِخنساءَ ولا لِلأحزَمِ
ولا لعمروٍ ذي السَّناءِ الأقدمِ
إنْ لم أرِدْ في الجيشِ، جيشَ الأعجمِ
ماض على الهول خِضمٍّ خضرمِ
إما لفوز عاجلٍ ومغنمِ
أوْ لِوفاةٍ في السَّبيلِ الأكرَمِ
فقاتل حتى قتل رحمه الله، فبلغ أمهم الخنساء الخبر فقالت: "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".
وكان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعطي الخنساء أرزاق أولادِها الأربعة بعد استشهادهم، لكل واحد مائتي درهم، حتى قبض شهيداً حينما غدره أبو لؤلؤة المجوسي.
10
أحزان الخنساء وهند
¥