تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومن هنا بادر إلى البحث عن الخضر، وما درى أنه سيتعرض (هو وقارئ القصة بالطبع) لمفاجآت أخرى، تصبح معها المفاجأة الأولى كلا شئ، وأى مفاجأة أكبر من أن يعمد الخضر إلى خرق سفينة لمساكين يعملون فى البحر، وإلى قتل نفس زكية حرم الله قتلها بدون ذنب وإلى بناء جدار بدون أجر فى قرية سائر أهلها بخلاء أبوا أن يضيفوهما.

إن قارئ هذه القصة أو سامعها لا يستطيع أن يأخذ أنفاسه مرتاحاً بعض الراحة بعد أن يبتدئها، وإنما يحس بدافع يخلق عنده ألواناً شتى من التشويق الرائع، ويسوق نفسه إلى التطلع السريع لحل ما تضمنته القصة من مفاجآت متوالية، وألغاز خارقة، وما يزال كذلك حتى يفاجأ بما فوجئ به سيدنا موسى نفسه حين قال له الخضر: (هذا فراق بينى وبينك)، وعندئذ يشعر القارئ أن هذا البطل قد انتهى دوره، وأن القصة قد لوحت بقرب ختام، وأن القرآن الكريم قد احتوى على قصة محتشدة بالصراع والحركة والمفاجآت والأحداث، فضلاً عما فيها من إعجاز التصوير، وجلال التعبير، وروعة الأداء، وكمال الإحكام، وسمو المضمون، ثم روعة الرمز إلى حقيقة القدر الذى يسيطر على الكون بتدبيره الخاص وإرادته العليا وقدرته الخارقة المطلقة.

وهكذا يتضح لنا من خلال التحليل الأدبى لهذه القصة: أننا أمام قصة قرآنية عظيمة، تعد - بحق - مثالاً رائعاً لضرب من ضروب القصص فى القرآن الكريم. وفيها من صور الجمال والجلال والكمال ما يعجز البشر والجن عن الإتيان بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً!!.

هذا وقد زعم الدكتور نجيب البهبيتى فى كتابه (المعلقة العربية الأولى): أن موسى فى هذه القصة ليس موسى بن عمران الذى أرسله الله إلى فرعون، وإنما هو موسى بن ميشا .. ([10]).

وهذا زعم يدحضه دليل من السنة النبوية الصحيحة، كذلك يدحضه دليل من التاريخ، ودليل من القرآن الكريم ذاته. أما الدليل من السنة، فهو ذكر هذه القصة فى صحيحى البخارى ومسلم، وفى الحديث: أنه موسى ابن عمران ([11]).

وأما الدليل التاريخى، فقد قال أهل العلم بالتاريخ: (لما مات يعقوب ويوسف عليهما السلام، وآل الأمر إلى الأسباط كثروا ونموا وظهر فيهم ملوك، فغيروا سيرتهم، وأفسدوا فى الأرض، وفشا فيهم السحر والكهانة، فبعث الله تعالى إليهم موسى بن ميشا بن يوسف عليه السلام، يدعوهم إلى عبادة الله وحده وأداء أوامره وإقامة سنته وذلك قبل مولد موسى بن عمران بمائتى سنة) ([12]).

وأضاف أهل العلم بالتاريخ: (أن موسى بن ميشا يسمى موسى الأول وليس هو صاحب الخضر عليه السلام، وإنما الصاحب هو موسى الثانى (2).

وأما الدليل القرآنى، فنحن إذ ننظر إلى قصة موسى مع الخضر نجد فيها ما يؤكد أن موسى - هنا - هو موسى بن عمران الذى تحدث عنه القرآن الكريم فى مواضع عديدة، فنحن نجد سيدنا موسى فى هذه القصة يعد الخضر بالصبر وعدم السؤال عن شئ حتى يحدث له الخضر منه ذكراً، ولكنه حين يرى الخضر يخرج السفينة ينسى ذلك كله أمام هذا التصرف العجيب الذى لا مبرر له فى نظر منطقة العقلى، ويندفع مستغرباً غير صابر على فعلة الرجل، ثم يندفع مستنكراً حين يراه يقتل الغلام، ومعاتباً حين يراه يبنى الجدار دون مقابل فى قرية أهلها بخلاء.

ومعنى هذا: أن موسى فى هذه القصة ذو طبيعة انفعالية اندفاعية تغضب للحق، وتلك الطبيعة هى ذاتها طبيعة موسى بن عمران فى بقية ما قصه الله عنه فى القرآن الكريم، وكما تظهر من تصرفاته فى أغلب أدوار حياته، مثل: وكزه الرجل المصرى فى اندفاعة من اندفاعاته، ومثل سرعة انفعاله حينما علم أن قومه عبدوا العجل فألقى ألواح التوراة، وأخذ برأس أخيه يجره إليه .. وهذه الطبيعة لم يحدثنا التاريخ بمثلها عن موسى بن ميشا.

كذلك فإن هذه الأحداث التى فعلها الخضر كانت من بين ألف مسألة أعدها الخضر - بأمر الله - لموسى بن عمران، مما جرى عليه من أول ما ولد إلى زمان اجتماعه به، فإن حدث خرق السفينة الذى ظاهره الهلاك وباطنه النجاة من يد الملك الغاصب الذى كان يأخذ كل سفينة غضباً، إنما كان - كما سبق القول - فى مقابلة التابوت الذى أطبق على سيدنا موسى فى اليم، فظاهره الهلاك وباطنه النجاة من فرعون. كذلك فإن أول ما ابتلى الله به موسى قتله القبطى بما ألهمه الله ووفقه له فى سره وإن لم يعلم ذلك، ولهذا أراه الخضر قتل الغلام، فأنكر عليه قتله، ولم يتذكر قتله القبطى .. وقد

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير