[الأجنحة المنكسرة (خاطرة)]
ـ[معاذ جمال]ــــــــ[22 - 11 - 07, 08:03 م]ـ
الأجنحة المنكسرة
هو ذاك قابع خلف القضبان؛ في قفصه الصغير الذي يكتم أنفاسه؛ أو يكاد.
هو ذاك وحيدا في قفصه!، واجما، كاسف البال، محزونا ..
يغرد بنبرة حزينة و صوت متهدج تتفطر له القلوب و ترتعش له الأبدان ..
صوت ينبيك عن حال صاحبه الذي تفارطته الهموم و تلاطمته نوائب الدهر ..
نظر إلى القفص بيأس و حيرة!
تمنى لو يستطيع أن يكسر هذه القضبان!!
تمنى لو تسعه الحيلة؛ أو يهتدي إلى وسيلة!
تمنى لو تمتد إليه أيادي قوية من فولاذ؛ تفك أسره و ترسم له يوما جديدا ..
أطرق برأسه منكسرا .. يغمره الألم و الأسى ... !
بقي على حاله تلك للحظات ... شبه تائه، هائما في فكره؛ يقلب صفحات الماضي، و يستعرض ما به من ذكريات، مستأنسا بأفراح الأيام الخوالي تارة، متحسرا ... باكيا لعجزه تارة أخرى.
******
نظر من خلال النافذة إلى السماء، جدران البيوت المجاورة تحجب الصورة أن تتجلى بوضوح ... لكنه كان يستأنس بالقدر اليسير الذي تسمح بظهوره فجوة من خلال البيوت. ثم أرخى سمعه متحسسا؛ عله يسمع زقزقة العصافير فوق الأشجار المصطفة على الرصيف، لكن هيهات! فخلف القفص جدران، و أبواب موصدة بإحكام، و ليس بينه و بين العالم الخارجي غير ما تجود به تلك النافذة الصماء الموصدة بدورها؛ و التي لا تسمح بنفوذ الأصوات ... أو تكاد!.
رفع بصره من جديد إلى السماء ...
نعم إنه يستطيع أن يراها من خلال تلك الفجوة التي تبدوا كهرم مبتور الرأس ..
إنها زرقاء بلون البحر!، بل لعل البحر بلون السماء!.
جال ببصره المرهق في الأفق؛ كتائه يبحث عن ضالته وسط الزحام ...
يا الله! ما أجمل السماء!، و ما أوسع هذا الكون!.
تنهد بقوة و أسى، آه ليثني أستطيع أن أحلق من جديد في السماء!
أجل فحتى الأمس القريب كان حرا طليقا يجوب الفضاء.
كانت جناحاه قويتين يرفرف بهما برشاقة فتحمله نسمات الهواء .. بعيدا .. بعيدا في الأفق ...
أجل! بحرية كان يطير ...
كان سعيدا جد سعيد، يحلق حيث شاء؛ لا شيء يثنيه عن عزمه أو يحول دون قصده ..
يحط فوق أغصان الأشجار .... يداعب بمنقاره الأزهار .... يشرب من الجداول و الأنهار .... يحلق فوق السهول و التلال، مستمتعا بعبق الورود و جمال الأزهار؛ و هي تأخذ أبهى حلة و كأنها لوحة لفنان اختار ألوانها بإتقان ...
فإذا أعياه الطيران و أجهده كثرة التجوال؛ نزل على غصن شجرة باسقة تمتد فروعها، أغصانها منفرجة كمرحب طال شوقه فانفرجت أساريره طربا بقدوم حبيب عاد بعد طول انتظار ...
فإذا أخذ مكانه أطلق لصوته العذب العنان؛ و كأنما أحس بحفاوة الترحيب فسارع برد السلام .... فتطرب لسماعه الآذان ... و تأنس له الحيوانات و الحشرات و حتى الديدان.
******
آه لكم كان سعيدا في أمسه و ها قد انقلبت السعادة إلى أحزان!
بالأمس كان حرا طليقا .. و للحرية يفتقد الآن!
كل شيء قد تغير ...
فتغريده لا يكاد يسمع الآن ... و هو الذي كانت تطرب لشدوه الآذان .. فتسلو النفوس و تذهب الأحزان ...
لكن فجأة سكن صوته!، و تغير لونه!
حتى ريشه الذي كان يكسبه جمالا و بهاء أخذ يتساقط ريشة تلو أخرى!، و هو أسير في قفصه الحديدي؛ الذي يمنعه من بسط جناحيه ليطير بسلام ..
ما أخبثه من قفص و ما أقصاه ...
آه فقد ولد حرا و لم يعتد الذل يوما و لا الهوان ...
تنفس بقوة و كأنما ينتزع النفَس انتزاعا ...
تمنى لو يطير ... لو يطير من جديد ... تمنى لو يكسر هذه الحواجز من حديد ...
لكن هيهات فجناحاه ضعيفان عن كسر القضبان ... و جسده أضعف ...
ما الحيلة؟ ......
أترى هناك وسيلة؟ أهناك أمل؟؟
لا يدري، لكنه يتشبث بأرفع خيط من أمل! فالأمل موجود ما دام في الجسد روح ...
ثم رفع بصره من جديد إلى السماء ...
أبصر طائرا يحلق باسطا ذراعيه و كأنما يعانق السماء! ... ثم تلاه آخر .. فثالث .. فرابع ثم توالت الطيور .. و هو يرقب ببصره
أخذ نفَسه بقوة متنهدا حتى كادت عظام صدره تخرج من مكانها آه آه ..
قد كنت يوما مثلكم أطير، لكني اليوم عاجز!!، خلف القضبان أسير ..
أجل أسير ... أترقب ...
لعل هذه القضبان تنفرج يوما لأطير من جديد ...
لكن هذه المرة إذا ارتفعت في السماء ... إلى الأفق البعيد ..
إذا أصبحت حرا فإنني سأعيش كل لحظة ... فلعل العمر بعدها قصير ..
فجأة! انتابه شعور غريب؛ ارتعدت له أوصاله و انتفش له ريشه، و كأنه قد خرج لتوه من عاصفة رعدية؛ نال منه برقها و طوحت به رياحها!.
إنه الحنين إلى الماضي الجميل ..
إنه الأمل في الغد الباسم السعيد ...
إنه شعاع الأمل الذي أطفأته قيود الغضاضة في قفص المذلة اللعين!
إنه شعاع الأمل قد لاح من جديد! فأنار قبسُه ومضة كانت ما تزال حية في قلبه، يغذيها الحب ... حب الحياة.
هو ذاك يرقب ... يتطلع لصبح جديد ...