تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

هذا العمل ملأ عليه وقته كله خلال تلك السنوات، وقد عشت معه - عليه رحمة الله - بعضاً من تلك الأيام، ما زلت أسترجع ذكراها إلى اليوم. لقد جئت إلى المملكة في مطلع عام 1977م لدراسة الهندسة في جامعة الملك عبد العزيز بجُدَّة، وكنت أمضي في نهاية كل أسبوع يومين أو ثلاثة أيام في بيته بمكة، فأراه كيف يصنع. كان يمضي كل يوم ساعات عاكفاً على أسئلة المستمعين والمشاهدين قراءة وفرزاً ليختار منها ما يصلح للإجابة، وما كان يسعه أن يجيب عن كل سؤال يأتيه؛ لأنه كان يستلم من الأسئلة في كل أسبوع مئاتٍ - حقيقة لا مجازاً - ووقت البرنامجين لا يكاد يتسع لغير عشر منها أو عشرين، ثم كان يراجع المسائل في أمهات الكتب، ويضع تعليقات على الأسئلة بخطة في بعض الأحيان. وكان - فوق ذلك - يتفرغ للإجابة عن أسئلة المستفتين بالهاتف بين العصر والمغرب كل يوم.

ولطالما أعلن في الإذاعة والرائي أن ذلك هو الوقت الذي يتلقى فيه الأسئلة، ولكن الهاتف كان يرن كل ساعة من ليل أو نهار! فإذا جاء المغرب كان ينطلق إلى الحرم فيجلس في موضع له هناك لا يفارقه بين العشاءين فيأتيه من الناس من شاء، ويسأله من شاء، فكان ذلك مجلساً مفتوحاً للعلم والفتوى، فإذا عاد من الحرم بعد العشاء فلا يستقبل أحداً - كما أنه لا يستقبل أحداً قبل العصر - ويعود إلى قراءته ومراجعاته وشؤون أهل بيته.

هكذا أمضى جدي تلك السنوات، حتى إذا جاوز الثمانين بدأ جسمه - الذي حمله في مسيرة حياته الطويلة الحافلة - بالتعب، وما عاد يقوى على العمل، فآثر ترك الإذاعة والرائي.

وكان - قبل ذلك - قد لبث نحو خمس سنين ينشر ذكرياته في الصحف، حلقة كل يوم خميس، فلما صار كذلك وقف نشرها - وكانت قد قاربت مئتين وخمسين حلقة - وودع القراء فقال: "لقد عزمت على أن أطوي أوراقي، وأمسح قلمي، وآوي إلى عزلة فكرية كالعزلة المادية التي أعيشها من سنين، فلا أكاد أخرج من بيتي، ولا أكاد ألقى أحداً من رفاقي وصحبي" [25] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=1797#_ftn25) وقد مُنح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1990م.

عزلته ووفاته:

أغلق عليه باب بيته واعتزل الناس إلا قليلاً من المقربين يأتونه في معظم الليالي زائرين، فصار ذلك له مجلساً يطل من خلاله على الدنيا، وصار منتدى أدبياً وعلمياً تبحث فيه مسائل العلم والفقه واللغة والأدب والتاريخ. وبات الشيخ - في آخر أيامه - ينسى بعضاً من شؤون يومه، فربما صلى الفريضة مرتين يخشى أن يكون نسيها، وربما نسي ما كان في اليوم الذي مضى، ولكن الله أكرمه فحفظ عليه توقد ذهنه ووعاء ذاكرته حتى آخر يوم في حياته. لقد صار أخيراً يتورع عن الفتوى مخافة الزلل والنسيان، ولكن الواقع أنه كان قادراً على استرجاع المسائل والأحكام بأحسن مما يستطعيه كثير من الرجال والشبان، وكان - حتى في الشهر الذي توفي فيه - تفتتح بين يديه القصيدة لم يرها من عشر سنين أو عشرين فيتم أبياتها ويبين غامضها، ويُذكَر العَلَم فيترجِم له، وربما اختُلف في ضبط مفردة من مفردات اللغة أو في معناها فيقول هي كذلك، فنفتح القاموس المحيط - وهو إلى جواره، بقي كذلك حتى آخر يوم - فإذا هي كما قال.

ومضت به على هذه الحال سنوات حتى كَلَّ قلبه الكبير، فما عاد قادراً على المضي بعد، فلما كانت آخر السنوات أدخل المستشفى مرات، وهو يشكو كل مرة ضعفاً في قلبه، وكانت الأزمات متباعدة في أول الأمر ثم تقاربت، حتى إذا جاءت السنة الأخيرة تكاثرت حتى بات كثير التنقل بين البيت والمستشفى. ثم أتم الله قضاءه فمضى إلى حيث يمضي كل حي، وفاضت روحه - عليها رحمة الله - بعد عِشاء يوم الجمعة، الثالث من ربيع الأول 1420هـ، الموافق للثامن عشر من حزيران، عام 1999م في قسم العناية المركزة بمستشفى الملك فهد بجُدة، ودفن في مقبرة العدل بمكة المكرمة في اليوم التالي بعد ما صُلِّي عليه في الحرم المكي الشريف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=1797#_ftnref1) الذكريات: 1/ 133.

[2] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=1797#_ftnref2) الحديث عنه في: الذكريات 1/ 143.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير