تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[(صوت صفير البلبل) قصيدة سخيفة وقصة سقيمة]

ـ[يوسف الخولاني]ــــــــ[15 - 12 - 07, 09:17 م]ـ

شاع بين نابتة هذا العصر قصيدة متهافتة المبنى والمعنى، منسوبة للأصمعي، صنعت لها قصة أكثر تهافتاً، وخلاصة تلك القصة أن أبا جعفر المنصور كان يحفظ الشعر من مرة واحدة، وله مملوك يحفظه من مرتين، وجارية تحفظه من ثلاث مرات، فكان إذ ا جاء شاعر بقصيدة يمدحه بها، حفظها ولو كانت ألف بيت (؟!!) ثم يقول له:إن القصيدة ليست لك، وهاك اسمعها مني، ثم ينشدها كاملة، ثم يردف: وهذا المملوك يحفظها أيضاً – وقد سمعها المملوك مرتين، مرة من الشاعر ومرة من الخليفة – فينشدها، ثم يقول الخليفة: وهذه الجارية تحفظها كذلك – وقد سمعتها الجارية ثلاث مرات- فتنشدها، فيخرج الشاعر مكذباً متهماً.

قال الراوي: وكان الأصمعي من جلسائه وندمائه، فعرف حيلة الخليفة، فعمد إلى نظم أبيات صعبة، ثم دخل على الخليفة وقد غيّر هيئته في صفة أعرابي غريب ملثّم لم يبِنْ منه سوى عينيه (!!) فأنشده:

صوت صفير البلبل هيّج قلب الثمل

الماء والزهر معاً مع زهر لحظ المقل

وأنت يا سيددلي وسيددي وموللي (!)

ومنها - وكلها عبث فارغ -:

وقال: لا لا لللا وقد غدا مهرولي (!)

وفتية سقونني (!) قهيوة كالعسل

شممتها في أنففي (!) أزكى من القرنفل

والعود دن دن دنلي والطبل طب طب طبلي (!)

والكل كع كع كعلي (!) خلفي ومن حويللي (!)

وهلمّ شرّا (بالشين لا بالجيم)، فكلها هذر سقيم، وعبث تافه معنى ومبنى.

ولم ينته العبث بالعقول، فقد زاد الراوي أن الخليفة والمملوك والجارية لم يحفظوها، فقال الخليفة للأصمعي: يا أخا العرب، هات ما كتبتها فيه نعطك وزنه ذهباً، فأخرج قطعة رخام وقال: إني لم أجد ورقاً أكتبها فيه، فكتبتها على هذا العمود من الرخام، فلم يسع الخليفة إلا أن أعطاه وزنه ذهباً، فنفد ما في خزانته (!!!).

إنّ هذه القصة السقيمة والنظم الركيك كذب في كذب، وهي من صنيع قاصّ جاهل بالتاريخ والأدب، لم يجد ما يملأ به فراغه سوى هذا الافتعال الواهن.

إن القصة المذكورة لم ترد في مصدر موثوق، ولم أجدها بعد بحث طويل إلا في كتابين، الأول: إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس، لمحمد دياب الإتليدي (ت بعد 1100هـ) وهو رجل مجهول لم يزد من ترجموا له على ذكر وفاته وأنه من القصّاص، وليس له سوى هذا الكتاب.

والكتاب الآخر: مجاني الأدب من حدائق العرب، للويس شيخو (ت 1346هـ)،وهو رجل متّهم ظنين، ويكفي أنه بنى أكثر كتبه على أساس فاسد - والتعبير لعمر فرّوخ (ت 1408هـ) - وكانت عنده نزعة عنصرية مذهبية، جعلته ينقّب وينقّر ويجهد نفسه، ليثبت أن شاعراً من الجاهليّين كان نصرانياً (راجع: تاريخ الأدب العربي 1/ 23).

ويبدو أن الرجلين قد تلقفا القصة عن النواجي (ت859هـ) _ وقد أشار شيخو إلى كتابه (حلبة الكميت) على أنه مصدر القصة، ولم أتمكّن من الاطلاع عليه، على أن النواجي أديب جمّاع، لا يبالي أصحّ الخبر أم لم يصحّ، وإنما مراده الطرفة، فهو يسير على منهج أغلب الإخباريين من الأدباء، ولذا زخرت مدوّنات الأدب بكل ما هبّ ودبّ، بل إن بعضها لم يخلُ من طوامّ وكفريّات.

وتعليقاً على كون الإتليديّ قصّاصاً، أشير إلى أن للقصّاص في الكذب والوضع والتشويه تاريخاً طويلاً، جعل جماعة من الأئمة ينهون عن حضور مجالسهم، وأُلّفت في التحذير منهم عدة مصنّفات (راجع: تاريخ القصّاص، للدكتور محمد بن لطفي الصباغ).

ثمّ اعلم أيها القارئ الحصيف أن التاريخ يقول: إن صلة الأصمعي كانت بهارون الرشيد لا بأبي جعفر المنصور الذي توفي قبل أن ينبغ الأصمعي، ويُتّخذ نديماً وجليساً، ثم إن المنصور كان يلقّب بالدوانيقي، لشدة حرصه على أموال الدولة، وهذا مخالف لما جاء في القصة، ثم إن كان المنصور على هذا القدر العجيب من العبقريّة في الحفظ، فكيف أهمل المؤرخون والمترجمون الإشارة إليها؟

أضف إلى ذلك أن هذا النظم الركيك أبعد ما يكون عن الأصمعي وجلالة قدره، وقد نسب له شيء كثير، لكثرة رواياته، وقد يحتاج بعض ما نُسب إليه إلى تأنٍّ في الكشف والتمحيص قبل أن يُقضى بردّه، غير أن هذه القصة بخاصة تحمل بنفسها تُهَم وضعها، وكذلك النظم، وليس هذا بخاف عن اللبيب بل عمّن يملك أدنى مقوّمات التفكير الحرّ.

ولم أعرض لها إلاّ لأني رأيت جمهرة من شداة الأدب يحتفون بالنظم الوارد فيها، ويتماهرون في حفظه، وهو مفسدة للذوق، مسلبة للفصاحة، مأذاة للأسماع.

وبعد: فإنه يصدق على هذه القصّة قول عمر فرّوخ رحمه الله: إن مثل هذا الهذر السقيم لا يجوز أن يُروى، ومن العقوق للأدب وللعلم وللفضيلة أن تؤلف الكتب لتذكر أمثال هذا النظم).

د. عبدالله سليم الرشيد

يتبع

-----

عادل الخولاني

ـ[يوسف الخولاني]ــــــــ[15 - 12 - 07, 09:23 م]ـ

من خلال نقولاتي للموضوع، ومحاولتي التنوير بمقال الأستاذ؛ وجدت أن بعضهم لا يتخيل أن هذا البنيان، وهذه القصة المُسلّم بصحتها من الصغر؛ تتهاوى بمقالٍ واحد!!

وكذلك وجُدت التأيد والإفادة من البعض الآخر؛ فأحدهم لفت إنتباهي إلى أن الذي ساهم بنشرها هو القطان، وآخر نقل لي مقولة مفيدة وهي: روي عن الأخفش أنه قال: {كان الأصمعي ((أعلم الناس بالشعر)) وكان يميز الغث من السمين وكان راوية العرب وكان يحفظ أكثر من عشرة ألالف أرجوزة غير الشعر .. ولكنه لم يكن شاعرا أبداً،

وثالث يقول: بأن هذه القصة لايؤمن بها إلا من لايعلم بالأدب والتاريخ!

ومرات نتفق ونقول: من هو الأصمعي؟! ومن هو الذي يجرؤ على الخليفة المهيب أبي جعفر المنصور ودم قائدهم الخرساني لم تجف بعد؟! ناهيك عن أن يأتي متلثما في مجلس الخليفة!!!

ولاننسى بأنهم كانوا في زمن لايُسأل عن المقتول فيما قُتل!

يتبع

-------

عادل الخولاني

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير