ما للمقابر لا تُجيب ii الداعي * أوَ ما استقلَّت بالسميع الواعي
وخصّا القبر الذي تضمّن الواعيَ السميع، والواحدَ الذي بذّ الجميع، فقولا له عني:
يا قبر، عزَّ على دفينك الصبر، وتعاصى كسرُ القلوب الحزينة على من فيك أن يُقابَل بالجبر، ورجع الجدال إلى الاعتدال بين القائلين بالاختيار والقائلين بالجبر.
يا قبر، ما أقدر الله أن يطويَ عَلماً ملأ الدنيا في شبر!
يا قبر، ما عهدنا قبلك رمساً، وارى شمساً، ولا مساحة، تكال بأصابع الراحة، ثم تلتهم فلكاً دائراً، وتحبس كوكباً سائراً.
يا قبر، قد فصل بيننا وبينك خط التواء لا خط استواء، فالقريب منك والبعيد على السواء.
يا قبر، أتدري من حويت؟ وعلى أي الجواهر احتويت؟ إنك احتويت على أمة، في رمّة، وعلى عالَم في واحد.
يا قبر، أيدري مَنْ خطّك، وقاربَ شطّك، أي بحر ستضُم حافتاك؟ وأي معدن ستزن كفتاك؟ وأيَّ ضرغامةِ غابٍ ستحتبل كفتاك؟ وأي شيخٍ كشيخك؟ وأي فتى كفتاك؟ فويح الحافرين ماذا أودعوا فيك حين أودعوا؟ وويح المشيعين ماذا شيعوا إليك يوم شيّعوا؟ ومن ذا ودّعوا منك إذ ودّعوا؟ إنهم لا يدرون أنهم أودعوا بنَّاء أجيال في حفرة، وودَّعوا عامر أعمال بقفرة، وشيعوا خِدَن أسفارٍ، وطليعة استنفارٍ إلى آخر سَفْرة.
يا قبر، لا نستسقي لك كل وطفاء سكوب، تهمي على تربتك الزكية وتصوب، ولا نحذو في الدعاء لك حذو الشريف الرضي، فنستعير للنبت جنيناً ترضعه المراضع، من السحب الهوامع، تلك أودية هامت فيها أخيلة الشعراء، فنبذتهم بالعراء، وزاغوا بها عن أدب الإسلام ومنهاجه، وراغوا عن طينته ومزاجه، بل تلك بقية من بقايا الجهل، ما أنت ولا صاحبك لها بأهل.
قولا لصاحب القبر عني: يا ساكنَ الضريح، نجوى نِضْوٍ طليح، صادرةً عن جفن قريح، وخافق بين الضلوع جريح، يَتَأَوَّبُهُ في كل لحظةٍ خيالُك وذكراك، فيحملان إليه على أجنحة الخيال من مسراك اللهب والريح، وتؤدي عنهما شؤونه المنسربة، وشجونه الملتهبة، وعليهما شهادة التجريح.
إن من تركت وراءك، لم يحمد الكرى فهل حمدت كراك؟ وهيهات، ما عانٍ كمستريح!
يا ساكن الضريح، أأكني؟ أم أنت كعهدي بك تؤثر التصريح؟ إن بُعدك، أتعب من بَعدك.
لقد كانوا يلوذون من حياتك الحية بكنف حماية؛ ويستذْرُون من كفاءتك للمهمات بحصن كفاية، ويستدفعون العظائم منك بعظيم؛ وأيم الله لقد تَلَفَّتَتْ بعدك الأعناق، واشرَأبَّتْ، وماجت الجموع واتلأبَّتْ، تبحث عن إمام لصفوف الأمة، يملأ الفراغ ويسد الثلمة، فما عادت إلا بالخيبة، وصِفْر العَيبة.
يا ساكنَ الضريح؛ مِتَّ فمات اللسان القوّال، والعزم الصوّال، والفكر الجوّال، ومات الشخص الذي كان يصطرع حوله النقد، ويتطايرُ عليه شرر الحقد؛ ولكن لم يمت الاسم الذي كانت تقعقع به البرد، وتتحلّى به القوافي الشُّرد، ولا الذكرُ الذي كانت تطنطن به الأنباء، وتتجاوب به الأصداء، ولا الجلال الذي كانت تعنوا له الرقاب، وتنخفض لمجلاه العقاب، ولا الدوي الذي كان يملأ سمعَ الزمان، ولا يبيت منه إلا الحق في أمان.
مات الرسم، وبقي الاسم، واتفق الودود والكنود على الفضل والعلم.
وعزاء فيك لأمّة أردت رشادَها، وأصلحت فسادَها، ونفقت كسادَها، وقوّمت منآدها، وملكتَ بالاستحقاق قيادَها، وأحسنتَ تهيئتها للخير وإعدادَها، وحملتها على المنهج الواضح، والعَلَمِ اللائح، حتى أبلغتها سدادَها، وبنيت عقائدها في الدين والحياة على صخرة الحق، ومثلك مَنْ بنى العقائد وشادها؛ أعليت اسمها بالعلم والتعليم، وصيّرت ذكرها محل تكريم وتعظيم، وأشربتها معاني الخير والرحمة والمحبة والصدق والإحسان والفضيلة فكنت لها نعم الراحم وكنت بها البر الرحيم.
ولقد حييتَ فما كانت لفضلك جاحدة، ومتّ فما خَيَّبتْ من آمالك إلا واحدة.
وهنيئاً لك ذخرك عند الله مما قدّمت يداك من باقيات صالحات، وعزاءاً لك فيمن كنت تستكفيهم، وتضعُ ثقتك الغاليةَ فيهم، من إخوانك العلماء العاملين، الصالحين المصلحين.
فهم - كعهدك بهم - رُعاة لعهد الله في دينه، وفي كتابه، وفي سنّة نبيه، دعاةٌ إلى الحق بين عباده، يلقَوْن في سبيله القذى كُحْلا، والأذى من العسل أحلى.
وسلام عليك في الأوّلين، وسلام عليك في الآخرين، وسلام عليك في العلماء العاملين، وسلام عليك في الحكماء الربّانيين، وسلام عليك إلى يوم الدين.
آفلو، 22 ربيع أول 1360 هـ / 9 أفريل 1941.