لقد سمعت كلمات من بعض خطباء هذا الحفل وأنا غير راض بها ولا عنها، وأنا كنتُ - وما زلتُ - أحارب هذه الألقاب، وقد سمعنا من شوقي قوله: ((إذا كثر الشعراء قلَّ الشعر))، وعلى هذا الوزن يصح أن نقول: إذا كثر المجاهدون قلَّ الجهاد.
إن المجاملات لا تكون إلا حيث يكون الضعف، وإن هذه الألقاب لا تتمكن إلا حيث تفقد المناعة الخلقية المتينة، ولذلك لا نجدها عند أسلافنا الذين قوي في نفوسهم سلطان الأخلاق، وما نبتت هذه المجاملات إلا في العصور الإسلامية المتأخرة حينما وقف تيار العلم والخلق، وضعفت دولة السيف والقلم، قادتهم هذه الحالة إلى التمَجُّد الأجوف بالكلمات الضخمة الجُوفِ، ولذلك كثرت الألقاب وصرنا نسمع هذه ((الطّغراء)): الكاتب الكبير، المجاهد العظيم، الزعيم الكبير …
إنني لم أكن مجاهداً، وإذا كنت ففي شيء واحد هو محاربة البدع والضلالات ومحو الأمية، وتعليم الأمة، وهذه أمور عادية لا ترفع القائم بها إلى مستوى الجهاد.
وحقاً إن الألقاب التي اعتدنا استعمالها إنما هي ((طغراءات)) جُوف لا تحقق أمنية، ولا تؤدي إلى غاية شريفة.
إن عبد الحميد بن باديس كان إماماً في العلم والتواضع، ومع ذلك فما كان إخوانه يخاطبونه بشيء من ألقاب الزعامة الفضفاضة.
والذي أستحسنه هو أن يتخاطب المسلمون فيما بينهم بكلمة ((الأخ))، أخْذاً من قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الحجرات:10.
أيها الإخوان:
إن من بين الأصدقاء الذين جمعتهم الصداقة في هذا الحفل الصادق ثلاثة قدم عهدي بصداقتهم فلم يزدد إلا جِدَّة: هم الأصدقاء المخلصون محمد شويل، وحسونة البسطي، ومحمد نصيف، فقد جمعنا الشباب الطامح، والأمل اللامح بالمدينة المنورة منذ أربعين سنة، وتجاذبنا ملاءة العلم فضفاضة، وتنازعنا كأس الأدب روية، وزجّينا الأيام بالآمال العذاب.
ولكننا نمنا في يقظة الدهر فما استيقظنا إلا وبعضنا مشرّق وبعضنا مغرّب، وبعضنا في مدار الحوادث يُدارُ به ولا تدور، وهانحن أولاء اجتمعنا بعد بضع وثلاثين سنة، وكأن خاتمة الفراق وفاتحة التلاق خميس وجمعة لهما ما بعدهما، وكأن ما بينهما من هذه المدة الطويلة انطوى ومحي، وكأن الذكريات بينهما حبال ممدودة أو سلاسل مشدودة، وكأننا لم نفترق لحظة، وكأن تلك الصداقة الصادقة بيننا شباب أمن الهرم، كما أمن الصيدَ حمامُ الحرم.
إيه أيها الرفاق، هل تذكرون ما أذكر من تلك الليالي التي كانت كلها سمراً كما قالوا في ليل منبج؟
هل تشعرون بما أشعر به من تفاوت بين تاريخ الفراق وتاريخ التلاق؟
هل تشعرون كما أشعر بأننا كنا في هذا الفراق الطويل أشبه بالميت أغمض عينيه عن الدنيا وفتحهما على الآخرة؟
هل تحسون كما أحسّ بأن مدة الافتراق كانت صفحات كلها عبر، ووخز إبر، وجُمَل من الحوادث سمعنا بمبتداها وما زلنا في انتظار الخبر؟
هل أنتم شاعرون مثلي بأن آمال المسلمين من يوم تركناها بالافتراق إلى يوم لقيناها بالاجتماع - تحققت ولكن بالخيبة، وأن أعمالهم نجحت ولكن بالفشل.
أما آمالهم فما زالت كَموتاً يسقيه وعد، وأما أعمالهم فما زالت إبلاً يوردها سعد ((وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون)) النحل33.
إيه أيها الرفاق: إن الزمان فرّقنا شباباً وجمعنا شيباً، ولئن أساء لي هذا فلقد أحسن في أننا اجتمعنا أصلب ما كنا قناةً في عقيدة الحق، وأجرى ما كنا ألسِنةً في كلمة الحق، وأجرأ ما كنا رأياً في تأييد الحق، وأثبت ما كنا عزيمةً في الدفاع عن الحق.
إن الهمم لا تشيب، وإن العزائم لا تهرم، وليس هذا البياض غبار وقائع الدهر كما يقول الشاعر، وإنما هو غبار الوقائع مع الدهر، فلا تهنوا ولا تفشلوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
أيها الإخوان:
إني أتوسم في هذه الوجوه، وأتلمّحُ ما وراءها من علم ومكارم، لا أقول فيهما بالتقليد، ولكنني خبرت وبلوت؛ فأجد مصداق الحديث: ((هذه مكة رمت إليكم بأفلاذ كبدها)).
بل أقول: هذا الحجاز رمى إليكم بأفلاذ كبده.
ومَنْ غير أستاذنا الجليل محمد نصيف يستطيع أن يجمع العالم في دار، أو يدّخر كنزاً ثميناً تحت جدار؟
ومن عجب أن القضيتين متعاندتان: فالذي يستطيع أن يجمع عالماً في دار لا يستطيع أن يجمع كنزاً تحت جدار، وما دامت الموائد تنصب، واللقم ترفع، والصحون تُجرّ، والأفواه تفتح وتضم، والطعام كُرات، والملاعق مخاريق بأيدي لاعبينا - فإن حال أستاذنا معنا حال أبي دلامة من شيوخ بني تميم إذ يقول:
نحن شيوخ بني تميم … وأنت - يا أستاذنا - أبو دلامة، فاجهد جهدك، وإن شيوخ بني تميم موفون بعهدهم فأوف بعهدك، وإن هذه الدار مهدنا فإنْ برمت أو ضجرت فاجعل غيرها مهدك.
وإن دار الشيخ نصيف لم تبرم بنا ولم تضجر، فأعانك الله على هذا الجند أيها الشيخ الحصيف الكريم.
أيها الإخوان:
إذا لم يُنصف الحجاز شيخه، ومخلد مجده، ورافع رايته أستاذنا الشيخ نصيفاً - فإن العالم الإسلامي كله ينصفه؛ فكلنا أَلْسِنة شاهدة بأنه مجموعة فضائل نعد منها ولا نعددها، وأنه مجمع يلتقي عنده علماء الإسلام وقادته وزعماؤه، فيردون ظماءًا، ويصدرون رواءًا.
وإنني أقولها بصيحة صريحة، وأؤديها شهادة للحق والتاريخ بأنه محيي السنة في الحجاز من يومٍ كان علماؤه - ومنهم أشياخنا- متهورين في الضلالة، وأنه صَنَع للسلفية وإحياء آثارها ما تعجز عنه الجمعيات بل والحكومات، وأنه أنفق عمره وماله في نصرها ونشرها، في هدوء المخلصين وسكون الحكماء، وسيسجل التاريخ العادل آثاره في عقول المسلمين، وسيشكر له الله غزوه للبدع بجيوش السنن المتمثلة في كتبها وعلوم أئمتها.
وجمعية العلماء نفسها مَدِينة له؛ فإن الكتب السلفية لم تصلنا إلا عن يده، وسيسجل أنه مفخرة من مفاخر الإسلام، وأنه كفارة عن تقصير العلماء، وأنه زهرة فواحة في أرض الحجاز، وأنه جماله الذي يغطي كل شين؛ إني كنت قلت في الشيخ نصيف أبياتاً منها:
قل للذي عاب الحجا * ز وجانب المثل الحصيفا
هيهات لست ببالغ * مدَّ الحجاز ولا (نصيفا)