بعض المتصدرين للدعوة والإرشاد يحذرون الناس من تقليد المذاهب الفقهية الأربعة بدعوى أن الواجب هو أخذ الأحكام من الكتاب والسنة فقط، ولأن أئمة هذه المذاهب أنفسهم قد نهوا عن تقليدهم، فما هي حقيقة التقليد؟ وهل يصح هذا الكلام في ذم التقليد أو لا؟ وهل أقوال المذاهب مخالفة للكتاب والسنة فعلا؟
الجواب:
التقليد في اللغة: مأخوذٌ من القِلادة، وهي ما جُعِلَت في العُنُقِ، وتكون للإِنسان والفَرَس والبَدَنَة التي تُهدَى في الحج، وجَعْلُ القِلادة في عُنُق ما يُهدَى إلى الحرم مِن النعم؛ ليُعْلَم أنه هَدي فيكف الناس عنه؛ تعظيمًا للبيت وما أُهدِي إليه ([1]).).
وأما التقليد في الاصطلاح فله معنيان:
أحدهما: العمل بقول الغير من غير حجة من الحجج الشرعية الملزمة، أي: من غير دليل قائم على حكمه أو حجيته.
والثاني: العمل بقول المجتهد من غير معرفة دليله معرفة تامة. والأول غير جائز باتفاق، والثاني جائز، بل لازم عند أهل العلم ([2]).).
والمراد بقولنا: "من غير معرفة دليله"، أي: معرفة تامة للدليل، وهي معرفة الاستنباط الاجتهادي والاكتساب الفقهي الذي يُشترَط في اعتبارهما توفر شروط الاجتهاد التي في كتب الأصول، فدخل في التقليد: أخْذ العامي بقول المجتهد من غير معرفة دليله أصلا أو مع عدم معرفته معرفة تامة بأن عرف وجه دلالته، ولكن لا يعرفها من الوجه الذي باعتباره يفيد الحكم. سواء أَذَكَرَ المجتهد في قوله سندَ الحكم أم لا، وسواء أأخذه عنه مباشرة أم بواسطة عالم موثوق به يرويه له عن نفس المجتهد أو عن مذهبه المدوَّن في الكتب المعتمدة ([3]).).
والمكلفون بالنسبة لأحكام الشريعة وأدلتها قسمان:
قسم قادر على أخْذ الأحكام من أدلتها بطريق الاجتهاد، وقسم دون ذلك.
والأول: هم المجتهدون، والثاني: هم المقلِّدون، ولابُدَّ لكل منهما من معرفة الحكم الشرعي ليعمل به حسبما كُلِّف.
فالأول بمقتضى التكليف العام مأمور بالاجتهاد للعمل بالأحكام الشرعية واتِّباعها. والثاني مأمور بتقليده كذلك ([4]).).
وجمهور الأصوليين على أن المقلِّد يشمل: العامي المحض؛ لعجزه عن النظر والاجتهاد، والعالم الذي تعلم بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، ولكنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد، فكل منهما يلزمه التقليد.
وقد اتفق جمهور العلماء على مشروعية التقليد ووجوبه عند عدم التمكن من الاجتهاد، يقول العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه: "بلوغ السول" تحت عنوان "استناد أقوال المجتهدين إلى المآخذ الشرعية": "وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين، لا لأن أقوالهم لذاتها حجة على الناس تثبت بها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام فإن ذلك لا يقول به أحد؛ بل لأنها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها مع عدالتهم وسعة إطلاعهم واستقامة أفهامهم وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها، ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية - لكونها ظنية لا تنتج إلا ظنا - أن يكون ذا تأهل خاص وقوة خاصة وملكة قوية يتمكن بها من تمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي صونا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع".
ثم قال: "وكما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم المستعدِّين للاجتهاد ببذل الوسع في النظر في المآخذ الشرعية لتحصيل أحكامه تعالى، أمر القاصرين عن رتبة الاجتهاد من أهل العلم باتِّباعهم والسعي في تحصيل ما يؤهلهم لبلوغ هذا المنصب الشريف، أو ما هو دونه حسب استعدادهم في العلم والفهم، وأمر العامَّة الذين ليسوا من أهل العلم بالرجوع إلى العلماء والأخذ بأقوالهم كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، أي: بحكم النازلة ليخبروكم بما استنبطوه من أدلة الشريعة مقرونًا بدليله من قول الله، أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم، أو مجردا عنه.
فإن ذكر الدليل من المجتهد أو العالم الموثوق به بالنسبة لمَن لم يعلم حكم الله في النازلة غير لازم خصوصًا إذا كان ممَّن لا يفهم وجه الدلالة كأكثر عامَّة الأمة، أو كان الدليل ذا مقدمات يتوقف فهمها وتقريب الاستدلال بها على أمور ليس للعامي إلمام بها" ([5]).).
¥