والظاهر أن ما قاله الكوفيون مآله إلى المذهب الأوّل، لأنّ النفي إذا انتقض بـ إلاّ صار إثباتاً. ومما تقدّم نرى أنّ المؤلف خلط بين المذهبين وجعلهما قولاً واحداً فيه ما فيه من الفساد والتناقض، فالقائلون بجواز التخفيف زعموا أنها حرف إثبات (خلافاً لما توهمّه أنّ المخففة نافية). والقائلون إنها أداة نفي أنكروا القول بجواز تخفيفها.
أمّا قوله "تصحو من جديد ... " فلم يظهر لي منه قصده ولعله يظهر لأحد، والله أعلم.
ثانياً: الجملة الفعليّة:
1 - النحاة حدّدوا المفعول به بناء على الشكل (حركة الآخر) ولم يلتفتوا إلى المعنى:
سلف أنّ المؤلف لم يسأم من تكرار مثل هذا الكلام، ودليله ههنا قول النحاة إن الفعل (جلس) لازم، مع أنّنا نقول "جلس أحمد على السرير" وما من شكّ أنّ فعل الجلوس وقع على السرير، فالسرير إذاً مفعول به، وإن كان مجروراً، "وعليه فإنّه كما نرى لا يوجد ما يُسمّى بالفعل اللازم، وإن لم يقم بنصب الاسم بعده" (33).
هذا مجمل كلامه، وفيه دلالة قاطعة على أنّه لم يقرأ عن هذه المسألة في مصنفات النحويين قديماً أو حديثاً، وما قاله أمرٌ يُعرف بالبداهة، لم يخف على أحدٍ من النحاة ولا على أصاغر الطلبة، ولو رجع إلى أيّ كتاب في النحو، لرأى فيه أنّ المفعول به قسمان (34):
-صريح: هو الذي يتعدّى إليه الفعل بنفسه، نحو: أحبّ وطني.
-وغير صريح: وهو الذي يتعدّى إليه الفعل مستعيناً بحرف الجر، نحو: جلست في الحديقة، ويسمّى الفعل في هذه الحالة لازماً أو قاصراً أو غير مجاوز، لأنّه لم يصل إلى المفعول به بنفسه، بل بوساطة حرف الجرّ.
تلك هي مصطلحاتهم في اللزوم والتعدّي، ولو أنّهم حدّدوا المفعول به بناءً على حركة الآخر، كما زعم، لما قالوا إنّ لهذا المجرور محلاًّ هو النصب، وأجازوا –نقلاً عن العرب- عطف الاسم المنصوب على هذا المحل، ولو عاد المؤلف إلى سيبويه لوجده يورد البيت (35):
فإن لم تجد من دون عدنان والداً * * * ودون معدٍّ ...
شاهداً على أنّ (دون) اسمٌ معطوف على محل (من دونِ) لأنّ المجرور مفعول به من حيث المحل، ولذا جاز العطف عليه بالنصب.
أليس في هذا دليل آخر على أنّ ما زعمه المؤلف من أنّ النحاة كانوا أسيري الحركات كلامٌ باطل، وافتراءٌ محض، وتجنٍّ بلبوس العقلانية والموضوعية!!
2 - ليس هناك ما يتعدّى إلى مفعولين:
قال (36): "أمّا ما يسمّونه الأفعال المتعديّة لمفعولين فإنّه لا يمكن أن يقع الفعل على أكثر من واحد، أي أنه لا يمكن للفعل أن يأخذ أكثر من مفعول واحد، وتلك الأسماء المنصوبة التي سميّت مفعولاً به ثانياً .. ضربٌ من التخريجات لحركة النصب التي ارتبطت دائماً في ذهننا بالمفعول به" فإذا قلت: أعطى أحمد الفقير رغيف خبز "فالحقيقة أنّ الذي وقع عليه فعل العطاء أو المنح هو "الفقير"، أمّا الرغيف فهو ليس مفعولاً به ثانياً، وهو يبيّن نوع العطاء، ولا علاقة له بوقوعه" وإذا قلت: أظنّ الطالب ناجحاً "فإن فعل الظن وقع على الطالب ولم يقع على نجاحه، وكلمة (ناجحاً) تبيّن حال الطالب وتتعلّق به، ولا علاقة لها بفعل الظنّ".
وهذا الذي انتهى إليه المؤلّف رأي نقبله على أنّه من النقد، وإن كان يفتقر إلى الدقّة، ولو رجع إلى ما قاله النحاة في درسهم لهذه الأفعال لوجد كلامهم أقرب إلى الصواب، قال الرضي: "باب كسوت وأعطيت متعدٍّ إلى مفعولين في الحقيقة، لكنّ أوّلهما مفعول هذا الفعل الظاهر، إذ (زيدٌ) في قولك: كسوت زيداً جبّة وأعطيت زيداً جبّة =مكسوٍّ ومعطىً، وثانيهما مفعول مطاوع هذا الفعل، إذ الجبّة مكتساة ومعطوّة، أي مأخوذة". "وأفعال القلوب [ظنّ وأخواتها] في الحقيقة لا تتعدّى إلاّ إلى مفعول واحد، هو مضمون الجزء الثاني مضافاً إلى الأوّل، فالمعلوم في (علمت زيداً قائماً) قيامُ زيد، لكن نصبهما معاً لتعلّقه بمضمونهما معاً" (37).
ولو اطّلع المؤلّف على مثل هذا الكلام لكان أكثر دقّة في كلامه، ولما أطلق الردّ على النحاة، وأمّا قوله إن حركة النصب ارتبطت في ذهننا دائماً بالمفعول به، ففيه تعميم، والصحيح في ذهنه وحده، وإلاّ فهي ترتبط في أذهاننا بسائر المنصوبات كالحال والتمييز والظرف والمفعول به.
3 - انقسام الفعل إلى مجرّد ومزيد فيه خَلْطٌ ومغالطة ..
¥