وثناءٌ يتوهج به من عنبر الشجر عبيرُه، ويتبلج به من بدر التمام على الركب الخابط في الظلام منيره. وصلوات من الله طهورها الروح والريحان، وأركانها النعيم والرضوان، وتحيات زكيات تتنزل بها -من الملأ الأعلى- الملائكة والروح، ونفحات ذكيات تغدو بها رسل الرحمة وتروح، وخيرات مباركات يصدّق برهانُ الحقِّ قولَها الشارحَ بفعلها المشروح.
وسلام من أصحاب اليمين، وغيوث من صوادق الوعود، لا صواعق الرعود لا تخلف ولا تمين، [2] وسحائب من الرحمات تنهل سواكبها، وكتائب من المبشرات تزجى مواكبها، وسوافح من العبرات تنحلّ عزاليها، ولوافح من الزفرات تسابق أواخرها أواليها على الجدث الذي التأمتْ حافَّتاه على العلم الجم والفضل العد، ووارَى ترابُه جواهرَ الحِجا والذكاء والعزم والجد، وطَوى البحرَ الزخَّار في عدة أشبار، فأوقف ما لا حدّ له عند حد، واستأثر بالفضائل الغُزْر، [3] والمساعي الغرّ، [4] والخلال الزُّهر، فلم يكن له في الأجداث ند، وأصبح من بينها المفردَ العلم كما كان صاحبه في الرجال العلمَ الفرد.
وسلام على مشاهدَ كانت بوجوده مشهودة، وعلى معاهد كانت تحت ظلال رعايته وتعهّده عليها ممدودة، وعلى مساجد كانت بعلومه ومواعظه معمورة، وعلى مدارس كانت بفيضه الزاخر، ونوره الزاهر مغمورة، وعلى جمعيات كان شَمْلها بوجوده مجموعاً، وكان صوته الجهير كصوت الحق الشهير مدوّياً في جنباتها مسموعاً.
مشاهد كان يراوحها للخير والنفع، وكانت آفاقها بأنواره مسفرة، ومعاهد كان حاديَ زُمَرها إلى السلم، وهادي نُزَّاعها إلى الإحسان والعلم؛ فأصبحت بعده مقفرة.
ومدارس، ما مدارس؟ مَهَدها للعلم والإصلاح مغارس، ونَصَبَها في نحور المبطلين حصوناً ومتارس، وشيّدها للحق والفضيلة مرابطَ ومحارس.
وسلام على شيخه الذي غذّى وربّى، وأجاب داعيَ العلم فيه ولبّى، وآثر في توجيهه خير الإسلام، فقلّد الإسلام منه صارماً عضباً، وفجّر منه للمسلمين معيناً عذباً، فلئن ضايقته الأيامُ في حدود عمره فقد أبقت له منه الصيت العريض، والذكر المستفيض، ولئن سلبته الحليةَ الفانية فقد أَلْبستْه من مآثر حُلل التاريخ الضافية، ولئن أذاقتْه مرارة فقده فقد متّعته بقلوب أمّة كاملة، ولئن حرمته لذة ساعات معدودة فقد أسعدته به سعادةً غير محدودة.
وسلام على إخوان كانوا زينة ناديه، وبشاشةَ واديه، وكانوا عمَّار سامره، والطِّيبَ المتضوع [5] من مجامره، والجوارحَ الماضيةَ في تنفيذ أوامره.
وسلام على أعوان كانوا معه بناة الصرح، وحماة السرح، وكانوا سيوف الحق التي بها يصول، وألسنة الصدق التي بها يقول.
أبت لهم عزة الإسلام أن يضّرعوا أو يذلّوا، وأبتْ لهم هداية القرآن أن يزيغوا عن منهاجه أو يضلّوا، تشابهت السبل على الناس فاتخذوا سبيل الله سبيلاً، وافترق الناس شيعاً فجعلوا محمداً وحزبه قبيلاً.
ولقد أقول على عادة الشعراء -وما أنا بشاعر- لصاحبين من تصوير الخيال أو من تكييف الخَبال، تُمثِّلهما الخواطر تمثيلَ صفاء، وتقيمهما في ذهني تمثالَ وفاء: بكِّرا صاحبي فالنجاح في التبكير، [6] وما على طالب النّجْح بأسبابه من نكير، تُنْجِحا لصاحبكما طِيةً، [7] لا تبلغ إلاّ بشد الرحل وتقريب المطية، فقد خُتِمت -كما بُدئت- الأطوار، بدولة الرحال والأكوار، فادفعا بالْمهريّة القُوْد [8] في نحر الوديقة الصيخود، [9] ولا تخشيا لذع الهواجر، [10] وإن كنتما في شهري ناجر، [11] ولا يهولنَّكما بُعْدُ الشُّقة، وخيال المشقَّة، ولا الفلَواتُ يُصِمّ صداها، ويقصر الطرف عن مداها، ولا السراب يترجرج رقراقُه، ويخدع الظامئ المحرور مُراقُه.
سيرا - على اسم الله - في نهار ضاح، وفضاء منساح، ضاحك الأَسرَّة وضَّاح، وتخلَّلا الأحياءَ؛ فستجدان لاسم مَنْ تَنْتَجعانِه ذكراً ذائعاً في الأفواه، وثناءً شائعاً على الشفاه، وأثراً أزكى نماءً وأبقى بركةً على الأرض من أثر الغمام المنهل، فإذا مَسّكُما الملالُ أو غشّى مطيّكما الكلالُ فاحدوا بذكراه ينبعث النشاط، وينتشر الاغتباط، وتَغْنيا بها عن حمل الزاد، ومَلءِ المزاد، وتأمنا غوْل الغوائل، من أفناء دراج ونائل [12].
¥