وهو ثاني علوم العربية تدوينا بعد وضع علم النحو.
موضوعه: إذا كان علم النحو قد وضع لتقويم اللحن في الكلام الذي يُغيّر المعاني، فإن هناك فسادًا آخر قد دخل على لغة العرب غير فساد اللحن ألا وهو الجهل بمعاني الألفاظ العربية، وقد أدى هذا الجهل إلى أمرين:
الأول: استخدام الناس للألفاظ العربية في غير موضوعها في لغة العرب.
والأمر الثاني: هو استخدام الناس لألفاظ غير مناسبة، أو استحداث ألفاظ جديدة للتعبير عن معاني مرادة لجهلهم باللفظ المناسب الذي يستخدمه العرب.
أي أن الجهل بمعاني الألفاظ قد أدى إلى استخدام الألفاظ في غير موضوعها وإلى العجز عن التعبير عن المعاني بالألفاظ المناسبة.
ومن هنا ظهرت الحاجة إلى تدوين الألفاظ العربية ومعانيها، وهذا هو موضوع علم اللغة: وهو " ضبط دلالة الألفاظ على المعاني ".
ثمرة علم اللغة: وهو أيضًا في تحمل اللغة وآدائها من جهة علاقة اللفظ بالمعنى.
والمقصود بالتحمل: فهم المعاني الصحيحة لكلام الغير، ويدخل في هذا: الفهم الصحيح لمعاني الكتاب والسنة وفق مايفهمه العرب من ألفاظهما.
والمقصود بالأداء: قدرة المتكلم على التعبير عن المعاني المرادة بالألفاظ المناسبة في لغة العرب، أي التعبير عن المعاني بالكلمات الفصيحة.
تدوين علم اللغة: قام العلماء بتدوين هذا العلم من ثلاث جهات:
الجهة الأولى: تدوين أصول علم اللغة وأصواتها وضوابط دلالة الألفاظ على المعاني، وسمي هذا (بفقه اللغة) وأقدم كتبه المعروفة لنا كتاب (الخصائص) لابن جني (أبو الفتح عثمان بن عمرو) 392 هـ، ومن أفضلها (المزهر في علوم العربية) للسيوطي 911 هـ، ومن كتب المعاصرين (دراسات في فقه اللغة) للدكتور صبحي الصالح، و (فقه اللغة) للدكتور علي عبد الواحد وافي.
الجهة الثانية: تدوين ألفاظ اللغة العربية (مفرداتها) مع بيان معنى، أو معاني كل كلمة منها، وسميت الكتب المشتملة على هذا (معاجم ألفاظ اللغة)، وأقدمها كتاب (العَيْن) للخليل بن أحمد الفراهيدي 165 هـ؛ ثم كثرت هذه المعاجم وتنوّعت طرائق مؤلفيها في الترتيب والاستيعاب وفي البسط والاختصار.
فمن جهة الترتيب:
منهم من رتب الكلمات على ترتيب مخارج الحروف، كما فعل الخليل بن أحمد في كتاب (العين)، فبدأ بحروف الحلق ثم حروف الحَنَك فالأضراس فالشفة فالحروف الهوائية، ولما كان أقصى حروف الحلق هو حرف العَيْن، فبدأ كتابه بالكلمات التي تبدأ بحرف العين وسّمى كتابه بأول مابدأ به (العين) كما كانت عادة كثير من السلف في تسمية كتبهم.
ومنهم من رتب الكلمات على حروف المعجم المعروفة مراعيًا أواخر الكلمات؛ فبدأ بالكلمات التي آخرها همزة، وهذه طريقة معظم الأقدمين كما فعل الجوهري (إسماعيل بن حماد) 393 هـ في كتابه (تاج اللغة وصحاح العربية)، وابن منظور الأفريقي 711هـ في (لسان العرب)، و مجد الدين الفيروز أبادي 817 هـ في (القاموس المحيط) الذي شرحه السيد محمد مرتضى الزبيدي 1205 هـ في (تاج العروس).
ومنهم من رتب الكلمات على حروف المعجم مراعيا أوائل الكلمات، فبدأ بالكلمات التي أولها همزة وهكذا، وهذه طريقة الرازي في (مختار الصحاح) والذي اختار كلماته من كتاب (الصحاح) للجوهري، والفيومي في (المصباح المنير)، و (المعجم الوسيط) لمجمع اللغة العربية وغيرها، هذا من جهة الترتيب.
أما من جهة الاستيعاب:
فمن المؤلفين من ألّف كتابه على الاستيعاب لمعظم مفردات اللغة: كالخليل في (العين)، وأبي منصور الأزهري 370هـ في (تهذيب اللغة)، والجوهري في (الصحاح)، وابن منظور في (لسان العرب)، والفيروزأبادي في (القاموس المحيط).
ومع استيعابهم فقد بينوا ما هو شائع الاستعمال وما هو مهمل مهجور من الألفاظ، وأكبر هذه المعاجم هو (لسان العرب) لابن منظور.
ومن المؤلفين من اقتصرعلى المفردات الشائعة الاستعمال دون المهجورة، ومن هذا كتاب (الألفاظ) لابن السِّكِّيت، وكتاب (الفصيح) لثعلب291 هـ، و (مختار الصحاح) للرازي، و (المصباح المنير) للفيومي.
ومن المؤلفين من اقتصر على مفردات علوم معينة، ومنها كتب مفردات القرآن (كالمفردات في غريب القرآن) للراغب الأصفهاني 502 هـ، أو مفردات الحديث (كالنهاية) لابن الاثير 606 هـ، أو المفردات التي يتداولها الفقهاء (كالزاهر في غريب ألفاظ الشافعي) لأبي منصور الأزهري 370 هـ، و (تهذيب الأسماء واللغات) للنووي 676هـ، ومنهم من صنف في المفردات ذات القيمة البلاغية (كأساس البلاغة) لمحمود بن عمر الزمخشري 538 هـ صاحب تفسير (الكشاف) فإنه اقتصر على ذكر الألفاظ التي تدور معانيها بين الحقيقة والمجاز، وإن كان ورود المجاز في اللغة هو محل خلاف ورفضه ابن تيمية وابن القيم؛فهذه أهم معاجم الألفاظ المعروفة وطرائقها في الترتيب والاستيعاب.
الجهة الثالثة من جهات تدوين علم اللغة: هى تدوين المعاني المختلفة مع بيان اللفظ المناسب لكل معنى منها، وهذه هى (معاجم المعاني).
فمعاجم الألفاظ تبدأ بذكر اللفظ ثم تبين معناه، أما معاجم المعاني فإنها تبدأ بذكر المعنى ثم تبين اللفظ المناسب له، ويتم ترتيب المعاني فيها على أبواب، فتذكر الكَثْرة مثلاً ثم تذكر الألفاظ الدالة على الكثرة في مختلف المناسبات والأحوال.
وفائدة معاجم المعاني: اختيار اللفظ المناسب للتعبير عن المعنى المراد بأفصح ماتستعمله العرب.
وأهم معاجم المعاني: كتاب (المخصّص) لابن سِيده (أبو الحسن علي بن إسماعيل الأندلسي) 458 هـ، وهو كتاب مبسوط ضخم، وهناك كتاب مختصر في مجلد وهو (فقه اللغة وسر العربية) لأبي منصور الثعالبي 429 هـ، وقريب منه كتاب (الألفاظ الكتابية) للهمذاني (عبدالرحمن بن عيسى) 320 هـ.
وعلى هذا فكتب علم اللغة ثلاثة أنواع: " كتب فقه اللغة، ومعاجم الألفاظ، ومعاجم المعاني "، وهذا هو ثاني علوم اللغة العربية تدوينًا.
¥