تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الذي من أجله ولد علم النحو هذا.

وأحسب أن هذا الفهم والهدف هو الذي دفع أبا عبيدة معمر بن المثني (ت 308هـ) إلى تأليف كتابه في مجازالقرآن، محاولاً بما أوتي من قوة ملاحظة ومشاهدة دقيقة أن يسلك بدرس النحو سبلاً أخرى تربطه بالنصوص وتوسع من دائرته وتسهل عويصه الصناعي. فاتخذ من بعض المسائل موضوعًا للتأميل في ربطها بالنص، وكان يهدف من وراء ذلك العمل إلى الكشف عن الحقيقة العلمية الكامنة وراء النصوص. فجاء عمله طيبًا وفق جهده فتناول مسائل متعددة من تقديم وتأخير وحذف وغيرها.

وعله بهذا العمل فيما نحسب يود أن يسعى إلى طريقة حسنة تفيد في تناول مسائل النحو وقضاياه، بدل البحث عن العلل الأوائل والثواني وكلها كانت من الطرق التي تلتمس لفهم طريقة لغة العرب ونحوها بمعناه الواسع المفيد. وهذا التناول قد فتح الباب أمام نظرات جديدة للنحو تتمثل في الجهد الذي ظهر في القرن الخامس على يد العلامة الشيخ عبد القاهر الجرحاني (471 هـ).

فكان النحو عنده ليس علامات الإعراب وحدها، أو النظر إلى أواخر الكلمات وليست البلاغة في التشبيه وبراعته ومحدودية النظر، وإنما سبيل العربية المطلوب هو الإبانة والفهم ووسائل العربية كثيرة، منها التنكير والتعريف والتقديم والتأخير والفصل والوصل والتحول من الاسم إلى الفعل ومن صيغة لأخرى.

وقد كان الرجل عظيمًا حين أسند وجوه البيان والافهام إلى علم النحو، وعاب على بعض القوم زهدهم في النحو وعلى آخرين اغفالهم لمعناه الواسع الجميل. قال عن المستهينين "وأما زهدهم في النحو واحتقارهم له أو إصغارهم أمره وتهاونهم به فصنيعم في ذلك أشنع .. وأشبه بأن يكون صدًا عن كتاب الله وعن معرفة معانيه وذلك بأنهم لا يجدون بدًا من أن يعترفوا بالحاجة إليه فيه. إذا كان قد علم أن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتِّقها، وأن الأغراض كامنة فيها. حتى يكون هو المستخرج لها .. ولا ينكر ذلك إلا من ينكر حسه وإلا من غالط في الحقائق نفسه، وإذا كان الأمر كذلك فليت شعري ما عذر منه تهاون به وزهد فيه، ولم ير أن يستسقيه من مصبه ويأخذه من معدنه ورضى لنفسه بالنقص والكمال لها معرض وأثر الغبينة وهو يجد إلى الربح سبيلاً" (5).

فعبد القاهر بمثل هذه الملاحظات يؤكد أن أمر التدريس النحوي مرتبط بفك المغلق واستخراج الأغراض الكامنة وليس هو أمر ما يلحق أواخر الكلام. هذا والذي أصاب النحو قبل فترة هذا العالم قد أبعده كثيرًا عن هذه الدوائر وصار مسائل كالألغاز عند بعضهم، وتلاعبًا بالصور والأشكال كما في قرينة الصرف كتلك الأقوال التي نعرفها من مثل: كيف تبني من كذا كذا، أو ما هو وزن كذا ثم ما وزن عزويت أو قولهم لو سميت رجلاً بكذا فكيف يكون الحكم (6) فمثل هذا وما أشبهه لا يثمر إلا كدّ الفكر وإضاعة الوقت وجلب الوهن، وعكسه نجده في ترغيب عبد القاهر الجرجاني في بعض المسائل البلاغية المختلطة بالأداء النحوي مما نحسبه صنيعًا محببًا للنفس الطموحة التي تشرئب لفهم العربية بأصلها، ولننظر في مثال واحد تناوله في الدلائل وهو "اشتعل الرأس شيبًا" (7). نحن في دراستنا النحوية نمثل به في باب التمييز المحول عن فاعل دون تلمس الوجوه الجمالية فيه. والمعاني الجمّة التي يشتمل عليها كما يتناوله البلاغيون الحرفيون يقول:

"ومن دقيق ذلك أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: {واشتعل الرأس شبيًا} لم يزيدوا فيه على ذكرالاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها ولم يروا موجبًا للمزية سواها، هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم وليس الأمر على ذلك ولا هذا الشرف العظيم .. ولكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء وهو لما هو من سببه فيرفع به ما يسند إليه ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى منصوبًا بعده مبينًا أن ذلك الاسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة كقولهم طاب زيد نفسًا وقرّ عمرو عينًا ... وأعلم أن في الآية شيئًا آخر من جنس النظم وهو تعريف الرأس بالألف واللام وأفادة معنى الإضافة وهو أحد ما أوجب المزية ولو قيل "واشتعل رأس فصرح بالاضافة" لذهب بعض "الحسن" فأرفه (8).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير