[مقالات (1): مناجاة الشيب]
ـ[عصام البشير]ــــــــ[14 - 10 - 08, 12:01 ص]ـ
المقالة الأولى: مناجاة الشيب
منذ سنوات قليلة، قدمتْ علي أولى طلائعك، وأناخت ركائبها بفوديّ، فتقبلتها بابتسامة باهتة، طمست بها وخزة عميقة في فؤادي.
وتعللت – فيما تعللت – بخاطرة خافتة الأنفاس، ملأتُ بها سراديب فكري، وجعلتها عنوة نورا يبصّ في سدفة الكآبة التي أحاطت بي من كل جانب، حتى غمرت كياني بما أقعدني عن مغازلة جمال الحياة.
تعللتُ بحسابات دفعتُ بها هجمتك التي احتوشتني من أرجائي كلها، حتى كادت تسقطني في مهامه الضياع. وأقنعتُ نفسي حينذاك أن تلك الشعرة البيضاء اللامعة في حلكة شعري البهيم، ليست تقدر على إخمادتلك الطاقة الرهيبة التي تفور في صدري، ويمور بها قلبي وضميري.
تعللتُ بأن الشباب الذي يجري ماؤه الغض في عروقي، أعتى من أن تكرثه شعرة صغيرة استحالت من لون إلى آخر.
تعللتُ بالذين سبقوني إلى مجاهل الحياة، فكانوا في مثل سني أو أكثر، وقد وضع الشيب ميسمه البغيض على مفارقهم، ينبضون بالحركة الدافقة، وتهدر دماؤهم بروح الكفاح، كالسيل المتحدر من قنن الجبال، لا يقوم لغضبته الجارفة شيء من غثاء الفكر الرخيص، أو الفعل الهجين.
تعللتُ بما مضى علي في حياتي من عقبات كالأطواد الشامخة، تمثلتْ بهيبتها أمام سيري الظليع، فلم أزل أعالجها بعزم يفت الصخر، حتى انجابت عن أفق من الأمل فسيح.
تعللتُ بهذا وبغيره، مما لستُ أذكره الآن، بعد أن غيبت سحنته عني أتربة النسيان.
تعللتُ .. وقلتُ لك:
لن تزيد على أن تكون ضيفا ثقيلا، أتى على غير ميعاد، وحل من غير استئذان.
ولن تعدوَ قدرك!
فما اكثر خِلانك من الضيوف الثقلاء!
ولم أزل مذ ذاك اليوم الذي ألقيتَ فيه عصا تَرحالك بفناء رأسي، أغالب فيك شعورين قد ملكا علي غياهب فؤادي، فأنا منهما بين نارين تتأججان، لا أكاد أطفئ حر إحداهما، حتى تتلقاني الثانية بصيخودها اللاهب.
أما الأول: فإحساس النائم المستغرق في نومه، لا يلقي لما حوله بالا، كأن الدنيا اختُزلتْ في شخصه، أو كأن الكونَ جُمع تفرقُه في ذاته؛ فإذا بصوت أجش مستنكر قد اخترق الفضاء، فارتجت منه جنبات الأرض؛ وإذا بذلك النائم يخر من برج أحلامه الساحرة، إلى أرض مجدبة سوداء، حصباؤها قذاراتُ الواقع الأليم.
كذلك شعرتُ حين حللتَ ضيفا لا يُرجى رحيله!
وكانت تلك اللحظة القاتمة، برزخا بين بُرهتين من عمري متباينتين.
كنتُ في الأولى أحمل بين جنبيّ ماردا جبارا، مستعصيا على الخوف، مستعليا على الكسل، دائم الانطلاق؛ لا يكاد ينهي قسمة غنائم فتح مجيد من فتوحه المتكاثرة، حتى يفزع إلى ميدان آخر من ميادين النضال والجلاد.
كنت في الأولى صقرا حائما، بل طيفا حالما، لا يمس الأرض إلا بمقدار ما يُعد للتدويم تارة أخرى في سباسب الفضاء الرحيب.
كنت في الأولى قويا كالأمل ..
حالما كالطفل ..
حازما كالصيقل في يد الكمي المغوار ..
راسخا كالطود السامق ..
جريئا كالإقدام نفسه، لو تجسد شخصا من البشر.
كنتُ في الأولى أرى القناعة بما دون الكمال موتا زؤاما، بل دونها الموت.
ثم كان ما كان ..
فصرتُ في الثانية بعكس ذلك كله: حائرا في دروب الحياة، مضطرب العزم، متردد الفكر بين قبو وضياء، وبين حضيض وفضاء.
صرتُ أتحسس موقع كل خطوة قبل أن أخطوَها، وأحرر كل كلمة قبل أن ألفظها، وأغالب كل فكرة قبل أن أسلم قيادي لها. ثم أعود على نفسي بعد ذلك كله بالعذل المر، والعتاب المؤلم.
صرتُ كالشاة الفاترة التي يسحبها جزار غليظ القلب إلى موتها المحتوم. تتمنع تارة، وتصاول جلادها تارة أخرى، ثم لا تلبث بعد حظ من النصَب غير قليل، أن تستسلم لما يرادُ بها، فتسلم الروح بين جثة هامدة، ونظرة شاردة.
صرتُ كالهائم في متاهات الحياة، تتراءى له سمادير الغفلة، فتنبعث به صُبابة نفس أبية لتدفعها، فهو معها أبد الدهر في جلاد لا ينقضي أمده.
كذاك كنتُ ..
وكذا صرتُ.
وكانت لحظة البقظة تلك فاصلا بين ما كنتُ عليه، وما صرتُ إليه.
وأما الإحساس الثاني، فلوعةُ المقصّر الذي يدرك عاقبة تقصيره، وحرقة السكيت حين يعاتب على تأخيره، وانكسار العاشق حين يلام على صده وهجره.
شعور الهزيمة هو!
أو قل – إن شئت أن تختصر الكلام فتهون وقع سياطه اللاهبة – هو شعور النكسة العاصفة في حلبة صراع لا يرحم.
سبق المشمرون!
ما أعذب هذه الكلمة حين تشملك وتحتويك في حضنها الدافئ، وما أقساها حين تلفظك كالنواة خارج حماها، وتصدح في أذنيك بصوت منكر:
وأين أنت من التشمير؟!
وأين كنت حين شمروا؟!
ألهوًا وطولَ أمل؟
أتفريطًا وأوهامَ غرور؟
أرُقادا وسعةَ رجاء؟
ما أتفهَ عقلك حين تقصد السوق لتقتني ما تحب، وليس في جيبك من ثمنه قليل ولا كثير!
يا هذا .. لقد سبقوا!
املأ بها سمعك، ثم سائلْ نفسك: إلى متى النحيب؟ وحتى متى العويل؟
قد آن لك أن تستبدل بهما حزما عُمريًّا، تلم به شعث نفسك المتضعضعة، وعزما شامخا تشرف به على دروب الحياة، فيما يستقبلك من الأيام.
¥