- إني آتيك الليلة فأعد لي شواءً و فراشاً و نبيذاً محشفاً (تمر ينبذ في وعاء فيه ماء).
ثم تركه و قصد إلى الشوارع يطوفها و نفسه وثابة لا يستطيع أن يكبح جماحها، و لما أقبل الليل بجيوشه ولى وجهه شطر البيت، و في خواطره من الثورة ما لو كان بأمة جامدة لحركها و دخل جرير في المساء على راويته فقال:
- هل هيأت كل شئ؟
قال: - أجل فعلام عولت؟
قال: - أما والله لأوقرنَّ رواحله بما يثقلها خزياً ينقلب به إلى أهله، و لتكونن قصيدتي فيهم دمَّاغة فاضحة، تسير مع الدهر و تطويه، و لألحقنبني نمير بجمرتي العرب الخامدتين (هامش: جمرات العرب الثلاث: (بنو الحارث بن كعب) و قد خمدت بمحالفتها مذحج، و (بنو ضبة بن أد) و قد خمدت بمحالفتها الرباب، و (بنو نمير) و قد خمدت بعد هذه الليلة بقصيدة جرير).
وبعد صمت قليل قال:
- هلم عشاءك!
فأحضر له العشاء، و حانت صلاة العشاء فقام و صلاها ثم قال:
- ارفعوا لي باطية من نبيذ، و أسرجوا لي
ففعلوا فشرب، ثم قال:
- هات دواةً و كتفا.
فأتاه بما أراد، فجعل جرير يهمهم و يحبو و يقول:
- اكتب، و ابتدأ بقصيدته فكان مطلعها:
أقلِّي اللوم عاذلَ و العتابا و قولي إن أصبت لقد أصابا
و بينا هو في تمتمته إذ سمعت صوته عجوز في الدار فاطلعت من الدرجة حتى نظرت فإذا هو على تلك الحال يحبو على الفراش، فانحدرت و قد خشيت مغبة ما رأت و قالت:
- ضيفكم مجنون .... رأيت منه كذا و كذا.
فقالوا: - اذهبي لطيتك، نحن أعلم به و بما يمارس
أدرك السَحَر الشاعر و هو على تلك الحال، حتى وصل إلى شطره الذي يقول فيه:
فغض الطرف إنك من نُمَيْر
فازدادت تمتمته و نشوته، و استعصى عليه الشطر الثاني، فقال لراويته:
- ويحك أطفئ السراج
فأطفأ السراج، ثم تناول منديلاً كبيراً غطى به رأسه زيادة في طلب الخلوة، و فتر برهة طويلة و الراوية ينتظره حتى عيل صبره، و كان للنوم عليه حكم فانقاد إليه، و مازال كذلك حتى أماله الكرى على صدر جرير، فوثب جرير وثبة انتبه منها الراوية مذعوراً، فإذا بالشاعر يكبر و يصيح:
- لقد أخزيته و رب الكعبة .... اكتب اكتب (فلا كعباً بلغت و لا كلابا) غضضته و قدمت إخوته عليه، و الله لا يفلح، و لن يفلح نميري بعدها أبداً.
...
انقضى الليل و ابن الخطفى يهذب قصيدته و يزيد فيها، حتى خرجت آية في فن الشعر، و مصيبة في الهجاء ثم نام و هو يقول: - لقد أخزيته والله آخر الدهر، فلن يرفعوا رأساً بعدها إلا نكس بهذا البيت.
و جعل يردده
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت و لا كلابا
...
أصبح جرير و هو على مثل جمر الغضى، و ما علم أن الناس أخذوا مجالسهم في المربد – و بينهم أبو جندل و ابنه و الفرزدق – حتى دعا بدهن فأدهن، و كف رأسه، و كان حسن الشَعر، ثم قال:
- يا غلام أسرج لي حصاناً
فأسرج له، ثم قصد مجلسهم يستحث جواده، فبلغ المكان فقال بصوت عال سمعه كل من كان هناك:
- يا غلام، قل لعبيد أبعثك نسوتك تكسبهن المال بالعراق؟ أما و الذي نفس جرير بيده لترجعن إليهم بمَيْرٍ يسوءهن و لا يسرهن. و البيت الحرام (*) إن لكم لمعاد سوء و ذلة و لأوقرنَّ رواحلكم بما يثقلها خزياً و عارا.
قال قوله هذا و الأعناق مشرئبة إليه. ثم قصد صاحباً له، قريباً مجلسه من أبي جندل، فأخذ بتلابيب الراعي و قال:
- إنكم لن تعودوا شم الأنوف جحاجح بين العرب بعد الساعة ...
و في تلك اللحظة لم يكن الجالس يسمع إلا وجيباً و همساً،ثم تركه و وقف منشداً قصيدته:
أقلي اللوم عازل و العتابا و قولي إن أصبت: لقد أصابا
أما الفرزدق فقد كان يصغي إلى جرير بكل جوارحه، لعلمه بإقذاعه إن هجا، و انطلق جرير يقول، و الناس آذان تصغي إليه حتى بلغ قوله:
أجندل ما تقول بنو نمير ......
فقال: يقولون شراً أتيتنا، فبئس و الله ما كسبنا قومنا، و لما انتهى إلى قوله:
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت و لا كلابا
أقبل الفرزدق على راويته يقول: غضَّه و الله، فلا يجيبه، و لا يفلح بعدها أبداً.
و قال عبيد: أخزيتَهم، أخزاك الله آخر الدهر
و لما وصل إلى قوله: بها برص .....
وضع الفرزدق يده على عنفقته يسترها عن عيني جرير الذي كان يرعاه و يرعى حركاته، فأتم الشاعر قوله:
كعنفقة الفرزدق حين شابا
¥