قد كان آدم حين حان وفاته ... أوصاك، وهو يجود بالحوباء
ببنيه أن ترعاهمو، فرعيتهم ... وكفيت آدم عيلة الأبناء
قال: أحسنت يا أخا العرب؛ فإن قال لك الفضل ممتحناً: هذان البيتان أخذتهما من أفواه الناس؛ فأنشدني غيرهما ما تقول: وقد رمقتك الأدباء بالأبصار؛ وامتدت الأعناق إليك؛ وتحتاج أن تناضل عن نفسك؟؛ قال: إذن أقول:
ملت جهابذ فضل وزن نائله ... ومل كاتبه إحصاء ما يهب
والله لولاك لم يمدح بمكرمة ... خلق، ولم يرتفع مجد ولا حسب
قال: أحسنت يا أخا العرب؛ فإن قال لك هذان البيتان أيضاً أخذتهما من أفواه الناس ما كنت قائلاً؟؛ قال: أقول:
وللفضل صولات على مال نفسه ... يرى المال منه بالمذلة والعنا
ولو أن رب المال أبصر ماله ... لصلى على مال الأمير وأذنا
قال: أحسنت يا أخا العرب!
فإن قال لك الفضل: هذان البيتان مسروقان؛ أنشدني غيرهما ما تقول؟؛ قال: إذن أقول:
ولو قيل للمعروف ناد أخا العلا ... لنادى بأعلي الصوت يا فضل يا فضل
ولو أنفقت جدواك من رمل عالج ... لأصبح من جدواك قد نفد الرمل
قال: أحسنت يا أخا العرب؛ فإن قال لك الفضل: هذان البيتان مسروقان أيضاً أنشدني غيرهما ما تقول؟؛ قال: أقول:
وما الناس إلا اثنان: صب وباذلٌ ... وإني لذاك الصب والباذل الفضل
على أن لي مثلاً كما ذكر الورى ... وليس لفضلٍ في سماحته مثل
قال: أحسنت يا أخا العرب؛ فإن قال لك الفضل: أنشدني غيرهما ما تقول؟؛ قال: أقول أيها الأمير:
حكى الفضل عن يحيى سماحة خالد ... فقامت به التقوى وقام به العدل
وقام به المعروف شرقاً ومغرباً ......... ولم يك للمعروف بعدٌ ولا قبل
قال: أحسنت يا أخا العرب؛ فإن قال لك: قد ضجرنا من الفاضل والمفضول؛ أنشدني بيتين على الكنية لا على الاسم ما تقول؟؛ قال: إذن أقول:
ألا يا أبا العباس يا واحد الورى ... ويا ملكاً خد الملوك له نعل
إليك تسير الناس شرقاً ومغرباً ... فرادى وأزواجاً كأنهم نحل
قال: أحسنت يا أخا العرب؛ فإن قال لك الفضل: أنشدنا غير الاسم والكنية والقافية؛ قال: والله لئن زادني الفضل وامتحنني بعد هذا لأقولن أربعة أبيات ما سبقني إليها عربي ولا أعجمي!؛ ولئن زادني بعدها لأجمعنّ قوائم ناقتي هذه وأجعلها في فمه!!؛ وأرجعن إلى قضاعة خاسراً؛ ولا أبالي!
فنكس الفضل رأسه؛ وقال للأعرابي: يا أخا العرب أسمعني الأبيات الأربعة: قال: أقول:
ولائمةٍ لامتك، يا فضل، في الندى ... فقلت لها: هل يقدح اللوم في البحر
أتنهين فضلاً عن عطاياه للغنى ... فمن ذا الذي ينهى السحاب عن القطر
كأن نوال الفضل في كل بلدةٍ ... تحدر هذا المزن في مهمة قفر
كأن وفود الناس في كل وجهة ... إلى الفضل لاقوا عنده ليلة القدر
قال: فأمسك الفضل عن فيه؛ وسقط على وجهه ضاحكاً!؛ ثم رفع رأسه وقال: يا أخا العرب؛ أنا والله الفضل بن يحيى!؛ أسال ما شئت؟؟؛ فقال: سألتك بالله أيها الأمير إنك لهو؟؛ قال: نعم؛ قال له: فأقلني؛ قال: أقالك الله، اذكر حاجتك؛ قال: عشرة آلاف درهم!
قال الفضل: ازدريت بنا وبنفسك؛ يا أخا العرب؛ تعطى عشرة آلاف درهم في عشرة آلاف؛ وأمر بدفع المال؛ فلما صار المال إليه حسده وزير الفضل؛ وقال: يا مولاي هذا إسراف؛ يأتيك جلف من أجلاف العرب بأبيات استرقها من أشعار العرب فتجزيه بهذا المال؟
فقال: استحقه بحضوره إلينا من أرض قضاعة؛ قال الوزير: أقسمت عليك يا مولاي إلا أخذت سهماً من كنانتك وركبته في كبد قوسك وأومأت به إلى الأعرابي؛ فإن رد عن نفسه ببيت من الشعر؛ وإلا استعدت مالك؛ ويكون له في بعضه كفاية؛ فأخذ الفضل سهماً وركبه في كبد قوسه وأومأ به إلى الأعرابي وقال له: رد سهمي ببيت من الشعر؟!؛ فأنشأ يقول:
لقوسك قوس الجود والوتر والندى ... وسهمك سهم العز فارم به فقري
قال: فضحك الفضل وأنشأ يقول:
إذا ملكت كفي منالاً ولم أنل ... فلا انبسطت كفي ولا نهضت رجلي
على الله إخلاف الذي قد بذلته ... فلا مسعدي بخلي ولا متلفي بذلي
أروني بخيلاً نال مجداً ببخله ... وهاتوا كريماً مات من كثرة البذل
ثم قال الفضل لوزيره: أعط الأعرابي مائة ألف درهم لقصده وشعره؛ ومائة ألف درهم ليكفينا شر قوائم ناقته!؛ فأخذ الأعرابي المال وانصرف؛ وهو يبكي!؛ فقال له الفضل: مم بكاؤك يا أعرابي استقلالاً بالمال الذي أعطيناك؟؟؛ قل: لا؛ ولكني أبكي على مثلك يأكله التراب وتواريه الأرض؛ وتذكرت قول الشاعر:
لعمرك ما الرزية فقد مال ... ولا فرس يموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حر ... يموت لموته خلقٌ كثير
وتوجه الأعرابي بالمال مسروراً.
ـ[مصعب الجهني]ــــــــ[06 - 01 - 09, 01:24 م]ـ
قال المستشرق جورج أوغست فالين (ت:270هـ)؛ في كتابه شمال الجزيرة العربية ص121
(لم أرَ في العالم كله اولاداً اكثر تعقلاً واحسن خلقاً واكثر طاعة لابيهم من ابناء البدوي!)
وأقول: هذه شهادةٌ لا مثيل لها؛ تؤكد أن البدو لا زالوا على سالف عهدهم متمسكين بالفضائل بجزيرة العرب
¥