تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنِ انْتَهَجَ التَّسْوِيْف، وتَقَاعَسَ عَنْ حَمْلِ الثَّقِيْلِ والخَفِيْف، وأَجَّلَ أَعْمَالَ النَّاسِ وأَعْمَالَه، وشَكَا مَنْ حَوْلَهُ إهْمَالَه، والقُضَاةُ رِجَال أُنِيْطَ بِهِمُ العَدْل، وانْتُظِرَ مِنْهُمُ الخَيْرُ والفَضْل، وقَدْ يُبْتَلَى بِبَعْضِهِمُ القَضَاء، فيُشَوِّهُوْنَ وَجْهَهُ الوَضَّاء، ولِذا قَالَ عَنْهُمُ المُصْطَفَى المُخْتَار:، قَاضٍ في الجَنَّةِ وقَاضِيَانِ في النَّار، وهُمْ عُصْبَةٌ قَلِيْلَةُ الإحْسَاس، لا تُرَاعِي مَصَالِحَ النَّاس، يَبْدُوْنَ بِوُجُوْهٍ كَالِحَة، ولِسِيْرَتِهِمْ أَنْتَنُ رَائحَة، يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّكَبُّرُ والصَّلَف، ولَوْ وَزَنْتَهُمْ لَمْ يَزِنُوا الخَزَف.

وأَصْلُ المَثَلِ أَنَّ شَابّاً رَاجَعَ المَحْكَمَة، لِيَرْفَعَ فِيْها عَلَى خَصْمِهِ مَظْلَمَة، وكَانَ خَصْمُهُ قَدْ نَهَبَهُ مَالَه، وحِيْنَ وَاجَهَهُ أَنْكَرَ مَا لَه، ومَعَ الفَتَى أَوْرَاقٌ تُثْبِتُ ما ادَّعَاه، وشُهُوْدٌ يُؤكِّدُوْنَ صِدْقَ دَعْوَاه، فأُحِيْلَ إلى قَاضٍ بَادِي البِطْنَة، مُقَطِّبِ الجَبِيْنِ قَلِيْلِ الفِطْنَة، فلَمَّا مَثَلَ أَمَامَه، وأَهْدَاهُ سَلامَه، رَمَقَهُ القَاضي بِعَيْنِ المُسْتَرِيْب، كَمَا يَرْمُقُ فَرِيْسَتَهُ الذِّيْب، ثُمَّ مَضَى يُخْبِرُهُ عَنِ القَضِيَّة، وعَمَّا لاقَاهُ مِنْ أَذِيَّة، وقَدَّمَ لَهُ الأَوْرَاقَ والشُّهُوْد، ثُمَّ قَاطَعَهُ القَاضي بَعْدَ هُجُوْد، وقَالَ: كُفَّ عَنِ الكَلام، وأَحْضِرْ خَصْمَكَ بَعْدَ عَام، فحِيْنَ اسْتَكْثَرَ الفَتَى المُدَّة، طَرَدَهُ القَاضي شَرَّ طِرْدَة، بَعْدَ أَنْ نَكَّلَ بِهِ كُلَّ تَنْكِيْل، وضَاعَفَ لَهُ مُدَّةَ التَّأْجِيْل، ثُمَّ أَقْبَلَ الفَتَى في المَوْعِدِ المَضْرُوْب، ولَمْ يَسْتَطِعْ إحْضَارَ خَصْمِهِ المَطْلُوْب، فأَمْهَلَهُ القَاضي عَامَيْنِ آخَرَيْن، فشَكَرَهُ ودَمْعُهُ يُسَابِقُ العَيْن، فصَاحَ القَاضي: أَتَسْخَرُ بِي يَا غُلام؟، مَوْعِدُكَ إذَنْ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَعْوَام.

ومَرَّتْ تِسْعَةُ أَعْوَامٍ وهوَ يُرَاجِع، ويَكْتُمُ في أَحْشَائهِ الأَسَى والمَوَاجِع، فلا هُوَ اسْتَطَاعَ إحْضَارَ خَصْمِه، ولا القَاضي هَمَّ بِإصْدَارِ حُكْمِه، وفي العَامِ العَاشِرِ مِنَ المُرَاجَعَات، اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ مَجْمُوْعَةَ فُتُوَّات، واقْتَادَ خَصْمَهُ إلى القَاضي، ونَسِيَ كَرْبَ سِنِيْهِ المَوَاضي، ودَخَلَ مَجْلِسَهُ الذي يَعْرِفُه، فوَجَدَ قَاضِياً آخَرَ يَخْلِفُه، فسَأَلَهُ عَنْ قَاضِيْهِ في انْدِهَاش، فأَخْبَرَهُ أَنَّهُ أُحِيْلَ إلى المَعَاش، وحِيْنَئذٍ بَادَرَ الخَصْمُ اللَّئيْم، يَشْكُو لِلْقَاضي عُنْفَ الغَرِيْم، وأَنَّهُ قَادَهُ إلَيْهِ بِالقُوَّة، ولَمْ يَسْلُكِ الطُّرُقَ المَرْجُوَّة، فمَا لَبِثَ القَاضي الجَدِيْد، أَنْ كَبَّلَ الغَرِيْمَ بِالحَدِيْد، وأَمَرَ الحُجَّابَ بِحَبْسِهِ وجَلْدِه، حَتَّى يَشْكُوَ السَّوْطُ مِنْ جِلْدِه.

ولَمَّا اسْتَوْفَى الرَّجُلُ كَامِلَ عُقُوْبَتِه، جَدَّدَ إلى القَاضي رَفْعَ خُصُوْمَتِه، فصَنَعَ بِهِ صَنِيْعَ القَاضي السَّابِق، وأَلْزَمَهُ بِإحْضَارِ خَصْمِهِ الآبِق، ومَرَّتْ عَلَيْهِ الشُّهُوْرُ والسَّنَوَات، وشَاخَ الرَّجُلُ وخَصْمُهُ مَات، فأَوْصَى بَنِيْهِ أَنْ يُطَالِبُوا وَرَثَتَه، وأَنْ يُحْضِرُوا أَوْرَاقَهُ ومِحْبَرَتَه، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِكِتَابَةِ مَا أَحْرَقَ أَعْمَاقَه، وأَمْلَى وهوَ عَلَى كُرْسِيِّ الإعَاقَة:

إلَى اللهِ أَشْكُو ضَعْفَ حَالِي وَحِيْلَتِي ... وَمَا ضَاعَ مِنْ مَالِي وَمِنْ عُمْرِيَ المَاضي

فَيَا لَيْتَ أَنِّي أَسْتَعِيْضُ بِمَا مَضَى ... مِنَ المَالِ عُمْراً لَسْتُ عَنْهُ بِمُعْتَاضِ

دُهُوْرٌ مِنَ الخِذْلانِ مَرَّتْ بَطِيْئةً ... وَمَرَّ شَبَابِي بَيْنَهَا مِثْلَ إيْمَاضِ

وَخَلَّفَنِي يَأْسِي كَسِيْفاً مُعَذَّباً ... أُعَانِي مَرَارَاتِي وَكَثْرَةَ أَمْرَاضي

سَعَيْتُ إلى حَقِّي فَمَاطَلَنِي بِهِ ... قُضَاةٌ أَرَوْنِي مِنْهُمُ كُلَّ إعْرَاضِ

فَعُدْتُ عَلَى الأَعْقَابِ مُضْطَرِبَ الخُطَى ... وَهَا أَنَذَا نِضْوٌ أُلَمْلِمُ أَنْقَاضي

ظَمِئْتُ فَأَغْرَانِي سَرَابٌ مِنَ المُنَى ... ظَنَنْتُ بِهِ رِيّاً، فَيَا طُوْلَ تَرْكَاضي!

فَلَمْ أَرْوِ مِنْ وِرْدِ القُضَاةِ حُشَاشَتِي ... ولَمْ يَسْقِ مَاءُ العَدْلِ يَابِسَ أَحْوَاضي

صُدُوْدٌ وَتَسْوِيْفٌ وَطُوْلُ تَجَهُّمٍ ... وَزَجْرٌ وَتَهْدِيْدٌ وَنَظْرَةُ إبْغَاضِ

فَلِلَّهِ مَا لاقَيْتُ مِنْ سُوْءِ بَعْضِهِمْ! ... وَلِلَّهِ كَمْ يُبْلَى القَضَاءُ بَعَضَّاضِ!

يُرِيْكَ إذا مَا جِئْتَهُ كُلَّ جَفْوَةٍ ... كَأَنَّكَ مِنْهُ آمِلٌ بَعْضَ إقْرَاضِ

يُشَوِّهُ شَرْعَ اللهِ شَكْلاً وَمَخْبَراً! ... وَيَزْهُو بِبُرْدٍ حَاسِرٍ عَنْهُ فَضْفَاضِ!

رَضِيْتُ بِشَرْعِ اللهِ حُكْماً مُنَزَّهاً ... وَمَا أَنَا عَمَّنْ شَوَّهَ الشَّرْعَ بِالرَّاضي

فَلا تَعْذِلُوْنِي لَوْ تَبَاطَأَ بِي الأَسَى ... وَصِحْتُ بِأَعْلَى الصَّوْتِ: أَبْطَأُ مِنْ قَاضي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير