قال المطرّز: عرضت الكلام على المّبرد فاستحسنه. وقال لي: قد بقيت لي عليه فاصلة أخرى على أحمد بن يحي. قلت: وماهي؟ أعزّك الله. قال: هي أن العرب قد جعلت بدّلت بمعنى أبدلت، وهو قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [ألا ترى أنه قد أزال السيئات وجعل مكانها حسنات]. قال: وأما شرط أحمد بن يحي فهو معنى قوله تعالى: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا}. فهذه [هي] الجوهرة بعينها، وتبديلها تغيير صورتها إلى غيرها، لأنها كانت ناعمة فاسودّت بالعذاب فردّت صورة جلودهم الأولى كلما نضجت تلك الصورة، فالجوهرة واحدة والصور مختلفة.
وفي كلام الفراء في ما مثّل به دخول الباء على الحاصل، وتوجّه الفعل على المتروك، كما جعله أبو النجم مبدلا.
انتهى الكلام على أقسام المسألة، والحمد لله وحده.
وقد وقفت على فصل في هذا الغرض لأثير الدين أبي حيّان مجتلب من شرحه لتسهيل ابن مالك، رأيت تقييده هنا، وبيان ما فيه، بحول الله تعالى.
وساق كلام أبي حيان الذي قدّمته أوّل الحديث برّمته، ثم قال:
[ردّ ابن لُب على كلام أبى حيان]
وقد اجتمعت فيه أشياء جملة: التهجّم بالتخطئة، وعدم اطراد العلة، والقصور في الاطلاع، وخلط الأقسام في الاستدلال، والتناقض في المقال.
أما التخطئة بالتهجم فلأنه غلّط كثيراً من المصنفين في العلوم والشعراء وهم في ذلك على صواب.
وأما انكسار العلة فلأنه جعل علة دخول الباء كون المحل معوضاً منه ذاهبا، وعلة التجرد منها كونه عوضا حاصلا، وقد ظهر مما تقدم نقلا من كلام الأئمة وسماعا من كلام العرب أن التبديل يكون بمعنى التغيير، وبمعنى القلب والتحويل. ومن المعلوم أن المغير والمحّول إنما هو المعوض منه الذاهب، وقد سلفت شواهد ذلك. وكيف يطرد له ذلك في مثل قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} وإنما معناه تحول هذه الأرض إلى غيرها، أو تغير حالها. ومثل ذلك قول جرير:
أبُدِّلَ الليلُ لا تَسْري كواكِبُه أمْ طالَ حتى حَسِبْتُ النَّجْم حَيْرانا
أي أبدّل الليل غير الليل، لأنه قد عاد له بقوله: "أم طال" أي أم بقي لكنه طال.
وأما القصور في الاطلاع فلأنه لم يقف على كلام الأئمة في معنى التغيير والقلب على شهرته وكثرة شواهده. وقد استشهد بطريقته بنظم بعض علماء الشعر كأبيات حبيب، وغابت منه شواهد القرآن، ومن شعر حبيب وأبي الطيب والمعري وغيرهم ما هو كثير صريح في خلاف قوله.
وأما خلطه الأقسام فلأنه جعل أبدل وبدّل وتبدل واستبدل المتوجه على العوض خاصة. وعليهما مع محلهما الذي تعاقبا عليه، كلّ ذلك على سواء في التعدي الذي وصفه. وقد ظهر في التقييد بون ما بين بدّل وأبدل وسائر الأبنية سماعاً من العرب، ونقلا من كلام علماء اللسان. وكذلك البون الذي بين بدّل وأبدل متوجهن على العوضين خاصة، أو عليهما مع محلهما.
وتأمل هنا كلام الزمخشري في قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} قال: وقيل هو أن يعطي رديئا ويأخذ جيدا. وعن السُّدّي أن يجعل شاة مهزولة مكان سمينة، يعني الوصي في مال اليتيم. قال: وهذا ليس بتبدّل إنما هو تبديل، يقول: إن المعنى على هذا القول لا تبدلوا خبيثكم بطيب اليتامى. والآية إنما فيها التبديل. وقد يتضمن معنى الأخذ لما يأخذ بما يترك، والوصيّ لم يأخذ الخبيث إنما أخذ الطيب.
وفي هذا الكلام من الزمخشري تسليم دخول الباء مع التبديل على المأخوذ الحاصل. وأردت الفرق بين التبدل والتبديل في ذلك، ولم يتفق للمقيد مثال من السماع في محل النزاع إلا آية. آخر كلامه، وهي حجة لخصومه.
وأما التناقض فلأنه ساق كلامه على التزام دخول الباء على العوض الذاهب وتجريد الحاصل، ثم ختمه بقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} وقال: أي بغير الأرض، جاعلاً الآية من القبيل الذي ذكر، وألزم فيها ما التزم، وهي على العكس من قوله، وصريحة في مخالفة رأيه، وشاهدة على تقديرِه للباء لصحة مذهب من صرّح بتخطئته. وليتأمل مأخذه في الآية: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} حيث جعل المفعولين مذكورين على سقوط الباء من "قول" وهو المفعول الثاني عنده، و"غير" هو الأول، فإنه مأخذ بعيد. وقد مرّ من كلام غيره فيها ما هو جلّي ظاهر. وهكذا طريقته في تقدير الآية: {يُبدِّلُ الله يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} أي بسيئاتهم، فإنه مع كونه على مخالفة مقتضى الآية الأخرى: {يوْم تُبدَّلُ الأرْضُ} مخالف لكلام الأئمة واستعمالهم، ودعوى وضع الشيء غير موضعه.
فليتأمل أيضا عدم استبعاده في إبدال الحروف بعضها من بعض أن يكون الأصل: أبدلتك هذا الحرف بهذا الحرف، وإنه لبعيد. والذي لا يبعد في ذلك الغرض أن يقدر أبدلت الكلمة هذا الحرف في هذا الآخر، لأن الكلمة هي محل التعاقب، وهذا الوجه الذي أشار إليه هو الذي طرقت احتماله إلى ما جاء من بدّل أو أبدل مع الباء داخلة على العوض الذاهب في الوجه الثاني كما سبق.
وهنا انتهى القول في المسألة، والحمد لله وحده.
¥