[حتى لا تغرق السفينة]
ـ[الضبيطي]ــــــــ[21 - 06 - 09, 09:09 ص]ـ
من بلاغة الحديث النبوي
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" مثل القائم في حدود الله و الواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها و بعضهم أسفلها , و كان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم. فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً و لم نؤذِ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً , و إن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً " رواه البخاري.
المجتمع سفينة تسير بركابها المختلفين صلاحاً وفساداً , وفكراً وسلوكاً , ولكن تجمعهم سفينة واحدة وتسير بهم جميعاً في طريق واحد ... إنها تقطع بهم بحر الدنيا .... فهم إلى مصير واحد متجهون وإن كانوا مختلفين ...
لقد أخذ كلٌ من هؤلاء الركاب مكانه من السفينة برضاه بعد الاستهام والاقتراع , فكان بعضهم في أعلاها , وهؤلاء يكونون على الأطراف في موقع جيد نشيط مشرف قريب من الماء , وكان بعضهم في أسفلها , وهؤلاء يكونون في وسط السفينة بعيدين عن الماء لا يتمتعون بما يتمتع به إخوانهم من الإشراف والنشاط.
وحاجة كلٍ إلى الماء حاجة فطرية لا يستطيع أن يستغني عنها , وكان هؤلاء السفليون إذا أرادوا الماء يضطرون إلى أن يمروا على من فوقهم يستأذنونهم ليصلوا إلى الماء، فيأخذوا منه حاجتهم ,
ولمّا طال عليهم الأمد أصاب سكان الأعالي أذىً من المرور المتكرر عليهم , ويظهر أنهم كانوا يتعرضون لقطرات من الماء تنصبّ عليهم أو على أمتعتهم في الصعود أو النزول ... فأظهروا تبرمهم واستنكارهم لهذا الفعل، وحصلت خلافات ومناقشات ...
ولاحت فكرة لسكان أسفل السفينة فأعجبتهم. قالوا: لماذا نُتعب أنفسنا ورفاقنا والماء ههنا تحتنا على ضربة معول لا نحتاج إلى أكثر منها؟ و أعربوا عن فكرتهم هذه قائلين:
لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا.
قصدٌ دافعه طيّب وهو عدم إيذاء شركائهم في السفينة.
وسمع أهل السفينة هذا القول ... فاُذهل عقلاءهم واستنكروا مثل هذا التفكير , وليس من شكٍ في أنهم منعوهم بالقوة من تنفيذ فكرتهم، ولم يقبلوا حجتهم التي تزعم أنّ تصرفهم كائنٌ في نصيبهم ...
صحيح أنه في نصيبهم .. و لكن التضامن بين ركاب السفينة قائم شاؤوا أم أبوا ... فالخرق خرقٌ هدام مميت في أي موضع كان من السفينة سواء كان في هذا الموضع أو ذاك ... في موضعك أنت أم في موضع خصمك الذي تكرهه ولا تطيق رؤيته ...
فإن تركوهم وما أرادوا , وقبلوا حجّتهم , وأرادوا لهم أن يمارسوا حريتهم الشخصية هلكوا جميعاً ,
وإن منعوهم من هذا العمل الإجرامي وأخذوا على أيديهم نجوا ونجا أولئك الذين هموا بالفعل أيضاً ...
والمجتمع فيه ناس في منازل متعددة ... وفي اتجاهات مختلفة , فيه فسّاق يرتكبون المعاصي، ويقترفون المنكرات , وفيه صالحون يقيمون حدود الله، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ... و إذا كان وجود الفريق الأول من العصاة أمراً لابد منه لِما رُكّب في الفطرة البشرية من الضعف والتعرض للخطأ والزلل فإن وجود الفريق الثاني من الصالحين الأمّارين بالمعروف النهّائين عن المنكر ضرورة ماسة.
فإن لم يوجد هذا الفريق تقوّض المجتمع وذهب ريحه؛ لأنّ المفسدين لا يجدون من يأخذ على أيديهم .... إنهم يخرقون سفينة المجتمع، ولا يلقون من يصدهم عن ذلك .... وفي ذلك دمار المجتمع.
إن المعاصي خروق تعرّض حياتنا إلى الدمار والضياع ,
وإنّ الصالحين وإنْ لم تكن لديهم الوسائل التي يستطيعون أن يأخذوا بها على أيدي المفسدين، لم يحققوا المهمة التي تصون المجتمع من الانهيار، فيتعرضون للنقمة ... ذلك؛ لأن آثار المعاصي والمخالفات لا تقتصر على العصاة. بل تشمل الأمة كلها , وتنال فيما تنال أولئك الساكنين الذين رأوا أسباب الانهيار ولم يقفوا ضدها.
وتدل هذه الصورة العظيمة على أنّ الحرية الفردية ليست مطلقة , بل هي محدودة بمصلحة الأمة , فليس المرء حراً في أن يصنع ما يشاء من المعاصي؛ لأنّ ذلك سيعرض كيان الأمة إلى الهدم والانهيار , كما تدل على أنّ فائدة الإنكار، إنما تتحقق إذا كانت قبل استفحال المعاصي وشيوعها و ذيوعها ... أمّا إذا عمّت وشاعت. كان الخرق، ثم الغرق، ولا ينفع في تلك الساعة النصح ولا يُجدي الإنكار.
نقل بالنص من كتاب: التصوير الفني في الحديث النبوي لمحمد الصباغ ص 427.
ـ[بلال الخليلي]ــــــــ[21 - 06 - 09, 03:33 م]ـ
فعلا والله يا أخي، هذا أبلغ حديث سمعته في حياتي
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا
ـ[الضبيطي]ــــــــ[22 - 06 - 09, 02:21 ص]ـ
هنيئا لك فهم الحديث والتلذذ بمعانيه
شكرا لك أخي بلال على مرورك واهتمامك