تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[الحجاج وعنايته بالقرآن الكريم]

ـ[محمد الأمين]ــــــــ[03 - 11 - 08, 02:56 ص]ـ

كان والد الحجاج مدرساً للقرآن، وكان الحجاج كذلك في مطع شبابه مدرس للقرآن، ثم عمل بالجند لكنه بقي شديد التعظيم للقرآن ولأهل القرآن. قال ابن كثير: "وكان فيه سماحة بإعطاء المال لأهل القرآن، فكان يعطي على القرآن كثيراً". وروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه قال: "ما حسدت الحجاج عدو الله على شيء حسدي إياه على حبه القرآن، وإعطائه أهله عليه، وقوله حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي، فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل".

وكان بليغاً من أفصح الناس حتى قال أبو عمرو بن العلاء (النحوي المشهور): "ما رأيت أفصح من الحجاج ومن الحسن وكان الحسن (البصري) أفصح". وكان متقناً للتلاوة حتى قال ابن عوف: "كنت إذا سمعت الحجاج يقرأ عرفت أنه طالما درس القرآن ".

والذي تجدر ملاحظته هنا أن الحجاج حجازي، وكان متبعاً للهجة الحجاز التي قرأ بها عامة الصحابة من المهاجرين والأنصار. ولذلك كان شديد التعظيم لقراءة عثمان بن عفان وهي موافقة لقراءة علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما). وكانت قراءات الكوفة ترجع في معظمها إلى رجلين: علي بن أبي طالب القرشي، وعبد الله بن مسعود الهذلي. ومع أن هذيل كانت تقطن الحجاز فقد كانت لهجتها غريبة عليه، قريبة جداً من لغة بني تميم النجدية. والحجاج لم يكن يرى صحة قراءة ابن مسعود، لذلك بذلك جهداً بالغاً في نشر قراءة قريش.

والمعروف أن المصحف العثماني لم يكن منقوطاً ولا مُشكّلاً. فأمر عبد الملك ابن مروان الحجاج أن يُعنى بهذا الأمر الجلل، وندب الحجاج رجلين لهذا هما: نصر بن عاصم الليثي و يحيى بن يعمر العدواني و هما تلميذي أبي الأسود الدؤلي (وكان هذا يقرأ بقراءة علي). بمعنى أن المصحف صار لأول مرة منقطاً ومشكلاً وفقاً لقراءة قريش (قراءة علي وعثمان، وهي موافقة لقراءة زيد بن ثابت الأنصاري كذلك). ولعل الواحد منا يتخيل أن هذا سيجعل قراءة قريش هي الغالبة، لكن الذي حدث أن قراء الكوفة مثل عاصم والأعمش قد نشروا قراءة هذيل نكاية بالحجاج فقط.

فيذكر عاصم بن بهدلة أنه سمع الحجاج يقول: لا أجد أحدًا يقرأ علي قراءة ابن أم عبد -يعني ابن مسعود- إلا ضربت عنقه ... فذكر ذلك عند الأعمش. فقال: وأنا سمعته يقول، فقلت في نفسي: لأقرأنها على رغم أنفك. قال ابن كثير: "وإنما نقم على قراءة ابن مسعود رضي الله عنه لكونه خالف القراءة على المصحف الإمام الذي جمع الناس عليه عثمان، والظاهر أن ابن مسعود رجع إلى قول عثمان وموافقيه، والله أعلم".

وقبل أن نلوم الحجاج في تفضيله للغة قريش، فله سلف في ذلك. فها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول لابن مسعود: أقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل؛ فإن القرآن لم ينزل بلغة هذيل. وقد ثبت في الصحيح عن عثمان أنه قال: إن القرآن نزل بلغة قريش، وقال للرهط القرشيين الذين كتبوا المصحف هم وزيد: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش؛ فإن القرآن نزل بلغتهم. وكذلك قوله تعالى في القرآن: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، يدل على ذلك، فإن قومه هم قريش، كما قال: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66]. فلذلك عندما جمع عثمان المصاحف أرسل عبد الرحمن السلمي مع مصحف الكوفة ليعلم الناس قراءة قريش فبقي يعلم إلى وفاته في أيام الحجاج، ومعلوم أنه قد قرأ على علي بن أبي طالب، وقد أخذ منه عاصم، لكن كراهية الكوفيين السياسية للحجاج دفعتهم إلى تقديم قراءة ابن مسعود كيداً للحجاج. ومن المؤسف أن تدخل السياسية في مسألة القراءات.

كما روي عن الإمام مالك أنه كان يكره القراءة بالنبر (أي بتحقيق الهمز)، باعتبار ما جاء في السيرة من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم تكن لغته الهمز، أي لم يكن يظهر الهمز في الكلمات المهموزة مثل: مومن، ياجوج وماجوج، الذيب. وهكذا كانت لغة عامة الحجازيين بما فيهم الأنصار. ففي المصباح المنير: و (الرأس): مهموز في أكثر لغاتهم، إلاَّ بني تميم، فإنَّهم يتركون الهمز لزوماً.

وأكثر ما يتحسر عليه المرء هو ضياع النسخ الأولى من المصحف المُشكّل، التي يُعتقد أنها موضوعة على قراءة قريش، قراءة علي وعثمان رضي الله عنهم. ولا أعلم في حد علمي أحداً من الباحثين بحث في هذه المخطوطات القديمة، والله أعلم.

========

ملاحظة: لا يخفى على عمر ولا على عثمان قضية اختلاف القراءات، فليس إنكارهما على ابن مسعود لأنهما ينكران قراءته، لكنهما يران أن الأولى تعليم الناس قراءة قريش. قال أبو شامة: ويحتمل أن يكون مراد عمر ثم عثمان بقولهما نزل بلسان قريش، إن ذلك كان أول نزوله ثم إن الله تعالى سهله على الناس فجوز لهم أن يقرؤه على لغاتهم على أن لا يخرج ذلك عن لغات العرب لكونه بلسان عربي مبين فأما من أراد قراءته من غير العرب فالاختيار له أن يقرأه بلسان قريش لأنه الأولى، وعلى هذا يحمل ما كتب عمر إلى ابن مسعود، لأن جميع اللغات بالنسبة لغير العربي مستوية في التعبير، فإذا لا بد من واحدة فلتكن بلغة النبي {صلى الله عليه وسلم}. وأما العربي المجبول على لغته فلو كلف قراءته قريش لعسر عليه التحول مع إباحة الله له أن يقرأه بلغته.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير