فانظر مثلا إلى قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)} [الإسراء]، والحجاب يكون ساترا لا مستورا، ولكن لو قال (ساترا) لاحتمل أن يكون السّتر خفيفا، فلمّا قال (مستورا) فهمنا أنّه شديد قويّ منيع، فكأنّه لكثافته مستور بستر آخر، ونظيره قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [من الأنعام: 25] فهو غطاء فوق غطاء.
ثمّ انظر إلى قوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)} [الطّارق]، أي: مدفوق، فهو أطلق اسم الفاعل وأراد اسم المفعول، لأنّ ماء الرّجل يُدفَق ولا يدفِق نفسه، ولكنّه لمّا كان يُدفق على دفعات وكانت الدّفقة الواحدة تدفع الأخرى سمّاه (دافقا)، والله أعلم.
فكذلك الحال مع كلمة (جايح)، فهو مستأصَل الرّشد لا مستأصِل، ولكنّه لمّا خرج عن الجادّة بالتّقصير، وسوء التّدبير، وضعف في التّفكير، اعتُبِر هو من استأصل نفسه بنفسه.
الثّالثة: ما علاقة (جُحَا) بهذه الكلمة؟ فأقول:
أوّلا: اعلم أنّه ليس بالضّرورة أن تكون ثمّة علاقة، ووجود الجيم والحاء لا يفرِض الخلّة والصّداقة، وإلاّ لركِبنا الهوس والجنون، وفرضنا علاقة بين ذلك ونهر (جيحون)!! ..
ثانيا: (جحا) من الرّجال الّذين قيل عنهم الكثير والكثير، حتّى صار على لسان كلّ صغير وكبير، ويُحكى عنه ما هو أشبه بالأساطير .. فمنهم من جعله مثلا للحمق كما في كتب الأمثال، ومنهم من جعله في غاية العقل والفطنة والكمال، ومنهم من نفاه وجعله من نسج الخيال.
وقد ذكروا أنّه دجين بن ثابت أبو الغصن الكوفيّ الفزاريّ، الّذي توفّي نحو 130 هـ/ 747 م)، ولكنّ الحافظ الذّهبي في " سير أعلام النّبلاء" والحافظ ابن حجر في " لسان الميزان " نفيَا ذلك، قال الذّهبي: " وأخطأ من زعم أنه جحا صاحب تيك النّوادر ".
والّذي يبدو أنّه أسطورة أو أنّه اسمٌ أطلِق على عدد من الرّجال، ذلك لأنّه -حَسَب ما ذكره شارل بلا- أنّ الجاحظ كان أوّل مؤلِّف عربيّ ذكر جحا في مؤلّفاته، ذكره في رسالة عن عليّ رضي الله عنه والحكمين، وذكره في " كتاب البغال " [انظر محاضرة شارل بلا في جريدة " الحياة البيروتيّة "].
ويؤيّد ذلك أنّ جحا عرفته الشّعوب الأخرى بأسماء متشابهة، فجحا الرّومي اسمه (خجا)، وفي آسيا الوسطى (دجا)، وفي مالطة (جيهان) وفي بلاد السّكسون (جوكا)، والكتاب (نوادر جحا) المطبوع بمصر وبيروت والمترجم عن التّركية إنّما هي في أخبار جحا الرّومي، لا العربيّ، وفي مقابله ألّف بعض العرب كتابا آخر سمّاه " نوادر جحا " أيضا ذكره ابن النّديم في " الفهرست " وبوّب قائلا: "أسماء قوم من المغفّلين ألِّف في نوادرهم الكتب لا يعلم من ألّفها ".
ولذلك نفا وجوده أحد الكتّاب وهو محمد فريد أبو حديد في مجلّة " العربي " العدد 41 ص 66.
ومع كلّ ذلك، وبالنّظر إلى أنّ أكثرهم يجعله مثلا للغباء، فإنّه يمكن أن يكون لاسمه علقة بكلمتنا، فقد قال الزّمخشريّ في " المستقصى في أمثال العرب " عن (جحا): " علم معدول عن جَاحٍ، وهو في الأصل اسم فاعل من جحي إذا مال في أحد شقّيه معتمداً على القوس في الرمي "، فانظر إلى قوله: " إذا مال "، تذكّرك بأصل (جاح) أنّها مجانبة الصّواب.
والله أعلم وأعزّ وأكرم.
البيان والتّوضيح لما في العامّية من الفصيح (6)
حرف الحاء
(حَوْج)
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فممّا درج عليه النّاس في كثير من مناطق الجزائر-حرسها الله-، قولهم عند الفزع أو الهلع، واستعاروها للاستغراب والتعجّب: " حَوْجِي! " و" واحَوْجِي " و" ياحوجي ".
واللّفظ -بحمد الله- فصيح، والاستعمال صحيح.
- أمّا اللّفظ: فإنّ (الحَوج) له معنيان:
- الأوّل: هو الحاجة، ويجمع على (حِوَجٍ) [1]، قال:
لعمري لقد ثبّطتني عن صحابتي ... وعن حُوجٍٍ قِضَّاؤُها [2] من شفائيا [3]
و (التَحَوُّجُ) هو:" طلب الحاجة بعد الحاجة "، والافتقار [4].
- الثّاني: هو السَّلامَةُ، تقول العرب: حَوْجاً لَكَ، أي سلامَةً [5]، وهي لغة يمانيّة، يقول الرّجل للرّجل إذا عثر أو عند المصيبة: حوجاً لك [6].
فإذا علمنا أنّ للكلمة أصلا في اللّغة، فبقي أن ننظر في استعمالها عند الفزع والجزع.
¥