إنّ من أساليب العرب إطلاقَ لفظ المثنّى وإرادة الجمع، لأنّ " التّثنية " في اللّغة معناها التّكرار وثنيُ الشّيء على الآخر، وقولهم: ثنيت الثّوب أعمّ من أن يكون مرّتين فقط، فحينها يكون المراد من التّثنية (جنس التّعديد) من غير اقتصار على اثنين فقط، كقولهم: قلت له مرّة بعد مرّة، أي: مرّات كثيرة، وتقول: هو يقول كذا ويقول كذا، وإن كان قد قال مرّات.
ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4] والمراد: كرّات.
ومنه-على الأصحّ- قوله تعالى: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: من الآية 90] أي: بغضب على غضب على غضب على آخر [انظر " تفسير القرطبيّ " (2/ 252)، وكذا تفسير الطّاهر بن عاشور].
ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي))، قال ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " (14/ 470):
" لم يرد: أنّ هذا قاله مرّتين فقط كما يظنّه بعض الناس الغالطين، بل يريد: أنّه جعل يثنّي هذا القول ويردّده ويكرّره كما كان يثنّي لفظ التّسبيح، وقد قال حذيفة رضي الله عنه في الحديث الصّحيح الّذي رواه مسلم: (إِنَّهُ رَكَعَ نَحْواًً مِنْ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي العَظِيمِ سُبْحَانَ رَبِّي العَظِيمِ) وذكر أنّه سجد نحوا من قيامه يقول في سجوده: ربِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي))، وقد صرّح في الحديث الصّحيح (أنّه أطال الرّكوع والسّجود بقدر البقرة والنساء وآل عمران) فإنّه قام بهذه السّور كلّها، وذكر أنّه كان يقول: ((سُبْحَانَ رَبِّي العَظِيمِ، سُبْحَانَ رَبِّي العَظِيمِ، سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى، سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى))، فعلم أنّه أراد بتثنية اللّفظ: جنس التّعداد والتّكرار لا الاقتصار على مرّتين " اهـ.
فإذا عُلِم ذلك، فلْيقتَصِر المتعجّب بالبخبخة والبهبهة على التّثنية، فإنّ ذلك أصون للسانه وأبقى لأنفاسه.
الثّالثة: تُعرب كلمة (بَخْ) أو (بَهْ) اسم فعل مضارع بمعنى أستعظم والفاعل مستتر تقدير أنا.
الرّابعة: إذا دخل التّنوين هذه الكلمة وقيل (بَخٍ) أو (بَهٍ) فإنّ ذلك للتّنكير، والمراد من التّنكير هنا زيادة التّعظيم لا الجهل بالشّيء وعدم تعيّنه، فالنّحاة عندما سمّوا بعض أنواع التّنوين بـ (تنوين التّنكير) فهذه التّسمية باعتبار اللّفظ، وإلاّ فإنّه لا بدّ من الوقوف دائما أمام معاني التّنكير نفسِه، والله أعلم وأعزّ وأكرم.
(بْنِينْ)
بْنِينْ: معناها في استعمالنا (طيّب)، وأطيب منه موافقة استعمالنا لاستعمال العرب، فقد قال ابن منظور رحمه الله:
" البَنَّة: الرّيح الطيِّبة كرائحة التُّفّاح ونحوها، وجمعُها (بِنانٌ) تقول: أَجِدُ لهذا الثوب بَنَّةً طيِّبة من عَرْف تفاح أَو سَفَرْجَل".
هذا هو الأكثر، لكن قد تطلق على الرّائحة المكروهة كما قال الأصمعيّ، وقال الجوهريّ: " البَنَّةُ: الرائحة كريهةً كانت أَو طيبةً ".
البيان والتّوضيح لما في العامّية من الفصيح (3)
أبو جابر عبد الحليم توميات
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:
فأستفتح هذه الحلقة من هذه السّلسلة بنصيحة إلى إخواننا وأخواتنا الّذين رضُوا بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد نبيّا ورسولا، ثمّ رضُوا باللّغة العربيّة لغةً .. لغة نزل بها القرآن العظيم، ونطق بها النبيّ المصطفى الأمين صلّى الله عليه وسلّم .. نصيحة إليهم أن يجتنبوا التّحدّث بغير اللّغة العربيّة –فصيحها أو عامّيتها- قدر الإمكان، فيكفي أنّ الحاجة والضّرورة تقودنا إلى التحدّث بغيرها في كلّ مكان ..
ولمّا كان " اللّسان العربيّ شعار الإسلام وأهله، واللّغات من أعظم شعائر الأمم الّتي بها يتميّزون " [1] كان سلف هذه الأمّة في قمّة الحزم والصّرامة حين كرهوا الكلام بغير العربيّة على وجه الاعتياد والدّوام، ولغير حاجة أو ضرورة، وانظر إلى ما رواه عبد الرزّاق في " المصنّف " [2] عن عمر رضي الله عنه ورواه ابن أبي شيبة عن عطاء [3] قالا::" لاَ تَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الأًعَاجِمِ، وَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ كَنَائِسَهُمْ، فَإِنَّ السَّخَطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ " ..
¥