فلم يكن من السّهل أن نضع أيدينا على لفظة تبدأ بحرف الثّاء ممّا درج عليها النّاس في لهجاتهم، فقد ذكرنا في المقال الأخير أنّ أهل المدن لا يكادون ينطقون بالثّاء والذّال والضّاد، فهي حروف سقطت من لسانهم، أو أنّها بقيت ولكن لم يبقَ شيء من أسنانهم، فنلتمس لهم عذرا ومخرجا، مع أنّهم لم يجدوا لهذه الأحرف مخرجا.
والمدن الّتي لا تزال تأتي بهذه الأحرف على وجهها، ولا تكاد جملة من جملهم تخلو منها: مدن بلاد القبائل، فهذه الأحرف الثّلاثة تكثر في كلماتهم، ولم تغِب عن استعمالاتهم، كما أنّك تجد بعض القرى بالغرب الجزائري لا يزالون يعرفون هذه الحروف، فوجدناهم ينطقون بالثّاء في بعض الكلمات، كالرّقم (ثلاثة)، و (ثورة)، و (ثقيل) وغيرها.
ومن ألفاظهم (ثُولاَلة)، وهي: نتوء خشن وصلب ينمو على سطح الجلد، يظهر على اليد أو القدم أو الوجه أو أي مكان من الجسم، ويجمعونه على (ثُلال).
وهي لفظة قريبة من الفصحى، فقد ذكر العلماء في معاجمهم كلمة (ثؤلول)، قال ابن منظور في " اللّسان ": " هو الحَبَّة تظهر في الجِلد كالحِمَّصة فما دونها "، وكذا قال ابن الأثير في " النّهاية " وغيرهما.
ولنا مع هذه الكلمة وقفات:
1 - نرى أنّ الكلمة سهّلت همزتها على عادة أهل المغرب العربيّ، فقالوا: (ثو)، وهو أمر مشهور في لغة العرب، وعليها قراءة ورش عن نافع، ولعلّ السّبب في اشتهار هذه الرّواية بأرض المغرب العربيّ أنّها موافقة للهجة أهلها، يسيرة على لسانها.
2 - ولكن ما سرّ انقلاب الواو ألفا، فقالوا (ثولالة) بدلا من (ثولولة)؟
3 - وما سرّ دخول تاء التّأنيث على الكلمة؟ فربّما ظنّ النّاس أنّه اسم جنس جمعيّ يفرّق بين مفرده وجمعه بالتّاء، فيقولون (ثولالة) في المفرد، و (ثولال) في الجمع، والصّواب أنّ المفرد من غير تاء، والجمع (ثآليل)، ونظير ذلك قولهم عن الذّباب: (ذبّانة) في المفرد، (وذبان) في الجمع!
4 - جمع هذه الكلمة (ثآليل)، وقد ذكر ابن منظور رحمه الله حديثا في ذلك فقال: " وفي الحديث في صفة خاتم النبوّة كأَنه ثَآلِيل "اهـ ..
وهو حديث صحيح، رواه التّرمذي في " الشّمائل المحمّدية " عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: (أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَدُرْتُ هَكَذَا مِنْ خَلْفِهِ، فَعَرَفَ الَّذِي أُرِيدُ، فَأَلْقَى الرِّدَاءَ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَأَيْتُ مَوْضِعَ الخَاتَمِ عَلَى كَتِفَيْهِ مِثْلَ الجُمْعِ حَوْلَهَا خِيلاَنٌ، كَأَنَّهَا ثَآلِيلُ).
5 - تنتج عدوى (الثّؤلول) عن الإصابة بفيروسات معينة، وهذه الفيروسات تعيش في خلايا الطبقة السطحية من الجلد لا تصيب الأنسجة الباطنية للجلد. ويكوِّن السطح السميك طيات يقل فيها عدد الأوعية الدموية. وينتشر الفيروس عن طريق اللمس إلى أجزاء أخرى من الجسم، أو إلى شخص آخر إذا خدش الثؤلول.
والله أعلم، وأعزّ وأكرم.
البيان والتّوضيح لما في العامّية من الفصيح (5)
بقلم: عبد الحليم توميات
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:
(حرف الجيم)
جاح: كلمة كثيرا ما نسمعها حال المنافسة والمسابقة، وتعني الخروج عن الحقّ لعدم الرّضا بالنّتيجة، فيقولون (جاح)، و (يجوح)، وهو: (جوّاح)، وهي كلمة فصيحة، سالمة صحيحة، فقد قال ابن منظور في " اللّسان ": " وجاحَ يَجُوح: إِذا عَدَل عن المَحَجَّة إِلى غيرها".
وربّما كان أصلها من الجَوح والاجْتِياح، وهو: الاستئصال، تقول: جاحَتهم السَّنة واجتاحَتْهم، أي: استأْصلت أَموالهم، وسَنَة جائحة، أي: جَدْبة، فكأنّ الّذي يحيد عن المحجّة يريد أن يستأصل حقّ غيره.
ولنا مع هذه الكلمة فوائد:
الأولى: من مباحث الفقه وأبوابه (وضعُ الجوائح) والجوائح جمعٌ مفرده (الجائحة) وهي ما يُصيب الزّرع والثّمار من آفات لا صنيع للآدميّ فيها، كالرّيح والجراد والسّيل ونحوها. روى مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه ((أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ))، وروى أيضا عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: الْجَوَائِحُ: كُلُّ ظَاهِرٍ مُفْسِدٍ مِنْ مَطَرٍ، أَوْ بَرَدٍ، أَوْ جَرَادٍ، أَوْ رِيحٍ، أَوْ حَرِيقٍ.
¥