فلو افترضْنا جدلاً أنه كُتِب كلُّه على خلاف القواعد، فهذا لا يضرُّه ولا يَقدح فيه من قريب أو بعيد، كما لو كتبه أحد مثلاً بخطٍّ غير جميل، وغير منسَّق، أو كتبه على ألْواح وأوراق رديئة، فإن كلَّ ذلك مما لا يُعاب به القرآن الكريم نفسُه؛ لأنه لم ينزل مكتوبًا، وطريقة كتابته وتدوينه ليست جزءًا من حقيقته.
والحقيقة أنَّنا عند البحث والنظر تبيَّن لنا بوضوح أنَّ رسم المصحف جاء على نحو دقيق منضبط لتحقيق مصالِحَ محدَّدة، وقد حقَّق المقصودَ منه على خير وجه، ولذلك فإنَّ هذا الرسم يُمدح ولا يُذمّ، وهذا ما دعا الأمَّة وعلماءَها إلى الالْتزام بهذا الرسم إلى يومنا هذا.
قال مصعب بن سعد: "أدركتُ الناس حين شقق عثمان - رضي الله عنه - المصاحف، فأعجبهم ذلك، ولم يُعبْه أحد" [3] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn3).
وقال الإمام أحمد: "يحرُم مخالفة خطِّ مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف، أو غير ذلك" [4] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn4).
خامسًا: الغالب أن يُطابِق المكتوب المنطوق، ولكن هذا لا يحدُث دائمًا، ففي اللغة العربية هناك حروفٌ تُكتب ولا تُنطق، وحروف تُنطق ولا تُكتب؛ بل هذا ليس خاصًّا بالعربية فقط، بل هو موجود في اللغات الأجنبية أيضًا، فقد اتَّفق أهل الإنجليزية مثلاً على أنَّ كلمة ( school) لا ينطق فيها حرف ( h)، وأنَّ حرف ( c) ينطق فيها ( k)، وهذا اصطلاح لهم لا يمكن تخطئتهم فيه.
والكتابة كذلك لا يمكن أن تضبط كل منطوق، ولذلك يصعب - مثلاً - كتابة الأثر الصوتي للغنَّة والإخفاء، والقلقلة والإمالة على نحو دقيق يفهمُه كلُّ قارئ.
ولذلك؛ فلا يمكن الاعتمادُ في نقْل القرآن على المكتوب فقط دون حِفْظ الصدر والتلقِّي عن شيوخ القراءات، وإنما يُسخَّر المكتوبُ في خدمة المنطوق، ومِن هذا ما نجده من الإشارات المكتوبة في المصحف التي تدلُّ على مواضعِ الوصْل والوقف، والإشارات المساعدة على تطبيق أحكام التجويد، وكذلك تقسيم الأجزاء والأحزاب والأرباع، ونحو ذلك من أمور اصطلاحيَّة يُقصَد بها تسهيل القراءة وتقريبها.
سادسًا: كتابة القرآن فيها بعضُ الاصطلاحات التي يخالف فيها المكتوب المنطوق أحيانًا، وفيها بعضُ الكلمات التي كتبتْ بطريقة قد تخالف المعتاد لخِدمة غَرَض معيَّن متعلِّق بالقراءة، أو جاءت في القرآن بأكثرَ من صورة مراعاة - مثلاً - لتعدُّد القراءات.
ومن الأمثلة على ما سبق:
? كلمة (رحمة) التي كتبت في القرآن كذلك (رحمت) بتاء مفتوحة.
ففي الموضع الذي كُتِبت فيه (رحمة) بتاء مربوطة، فإنَّها تنطق هاء عند الوقف عليها باتِّفاق القرَّاء؛ كما في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159].
وفي الموضع الذي كُتِبت فيه بتاء مفتوحة تُنطق تاءً عند الوقف عليها - عند بعض القرَّاء - كما في قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] [5] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn5).
? وفي سبب كتابة الألف في بعض الكلمات واوًا مثل: (الصلاة - الصلوة) و (الزكاة - الزكوة) قال السيوطي: "في البدل تُكتب بالواو للتفخيم ألفُ الصلاة والزكاة والحياة والرِّبا - غير مضافات - ومشكاة والنجاة ومناة" [6] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn6).
وقد صنَّف أهلُ العلم قديمًا وحديثًا مصنفاتٍ عدَّة في بيان سبب رسْم بعض الكلمات في القرآن على نحو يخالف الرسم القياسي [7] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn7).
سابعًا: إبْقاء المسلمين لرَسْم المصحف كما هو، وعدم إخضاعه لتغيرات القواعد الإملائية والكتابية الحديثة - مِن أظْهرِ الأدلة على صيانة القرآن وكلِّ ما يتعلَّق به، لدرجة الاحتفاظ برسم المصحف الذي ارتضاه الصحابةُ الكِرام، واتفقوا عليه على نفس صورته بما فيها من اصطلاحات، حيث إنَّ هذا الرسمَ حقَّق المراد منه.
فإذا كان الرسم القرآنيُّ قد بلغتِ العناية به هذا الشأنَ العظيم من الدِّقَّة والضبط، رغمَ كونه من الأمور الاصطلاحية الاجتهادية، فلا شكَّ أنَّ العناية بالأمور التوقيفيَّة والوحي المنزَّل قد فاق كلَّ ذلك عنايةً وحفظًا، وضبطًا ودقَّة.
وصدق العلي العظيم القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ــــــــــــــــــــــــ
¥