((الِميْزَان فِي حُبِّ الْأَوْطَان))
ـ[احمد الجرابلسي]ــــــــ[27 - 02 - 10, 12:11 ص]ـ
((الِميْزَان فِي حُبِّ الْأَوْطَان))
رأيت في الفترة الأخيرة بعض الناس يفهم انتماءه لوطنه ويعبر عنه بصورة غير صحيحة، وإذا نبه على ذلك، قال: إن الدافع هو الحب للوطن، ولا ندري هل هذا الحب نابع من التقليد، أم أن له في الواقع شيئا من الرصيد؟ ودعوني أعطيكم دلالات وأمارات على الحب الصادق للوطن، والمعنى الحقيقي له، وكل منكم أبصر بنفسه، فمن تحققت فيه تلك الأمارات، فهو المحب لبلده حقاً، وإن كانت الأخرى؛ فليصلح من نفسه، ويصحح مساره، حتى لا يكون حبه ادعاء بغير برهان، وأُولى هذه الأمارات تقول:
• هل تحب بلدك، ولا تقدم عليها غيرها من البلاد؟ وأرجو أن تنتبهوا لعبارة (ولا تقدم عليها غيرها من البلاد) جيدا. فإن كنت كذلك، فإن لك في النبي-صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة عندما خرج من مكة وقال لها: «ما أطْيَبَكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَكِ». أخرجه الترمذي برقم (3926). وهذه أمارة من أمارات حبك لوطنك.
• وثانيها تقول: هل تدعو لبلدك بالخير والبركة؟ فالقليل المبارك خير من الكثير الذي لا بركة فيه، اسمع إلى دعاء نبيك _صلى الله عليه وسلم_ للمدينة بعد أن اتخذها وطناً حين قال: ((اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى مَدِينَتِنَا)). أخرجه مسلم برقم (3401). وهذه هي العلامة الثانية على حبك لوطنك.
• وثالثها: لا تنسى بلاد الإسلام من صالح دعائك، فهي موطن إخوانك، وتذكر أن دعاء نبيك _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _ كان شاملاً للمدينة، ولديار الإسلام الأخرى حين قال: ((اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا)). أخرجه أحمد برقم (6064). فلا تكن محجوباً به عن سواه.
• ورابعها: هل تأمل وتسعى أن ينهج وطنك شرع الله، ويكون نبراساً يشع منه النور لبقاع الأرض كلها؟ فالنبي _صلى الله عليه وسلم_ هاجر من مكة إلى المدينة لأجل ذلك، فأكرمه الله عز وجل بأن جعل كلا من مكة والمدينة بل الدنيا قاطبة تنعم بذلك.
هكذا يكون الحب الحقيقي للوطن برأيي، فلا تسجن حبك في مظاهر تذهب أدراج الرياح، وتخدع نفسك بعد ذلك، وتحسب بأنك قد قمت بالواجب كله تجاه وطنك.
فمنهم من لا يهنأ له عيش ولا يفرح بعيد دون أن تقر عينه بوطنه كما قال الشاعر:
لم أحتفل لقدوم العيد من زمنِ ** قد كان يبهجني إذ كنت في وطني
لم ألق أهلي ولا إلفي ولا ولدي ** فليت شعري سروري واقع بِمَنِ
ومنهم من ينسى وطنه لعيون حسناء سبته ألحاظها كقول قائلهم:
إنْ تُتْهِمي، فَتِهَامةٌ وَطَني ** أو تُنْجِدِي إنّ الْهَوَى نَجْدُ
فهو متقلب يسير خلف هواه ومصلحته، ووطنه رخيص عنده لا قيمة له، بل يبيعه بنظرة من غانية، وهذا النوع لا يعرف قيمة الوطن إلا إذا ذهب عنه وافتقده عندها يكون لسان حاله كقول القائل: إن عاد لي وطني اعترفت بحقه ** إن التغرب ضاع عمري فيه
وما أجمل قول ابن الرومي في هذا المقام_ وهو الشاعر الكبير الذي يعد من طبقة بشار والمتنبي _:
وَلي وطنٌ آليتُ أَلاَّ أَبيعَهُ ........... وألّا أَرَى غَيْرَيْ لَهُ الدَّهْرَ مَالِكا
عَهِدتُ به شرخَ الشبابِ ونِعمةً ... كَنعمةِ قوْمٍ أصبحوا في ظِلالِكا
وقَد ألِفتْهُ النفسُ حتى كأنهُ ... لها جسدٌ إن غابَ غودِرْتُ هالكا
وحبَّبَ أوطانَ الرِجالِ إليهمُ ....... مَآربُ قضَّاها الشبابُ هنالِكا
إذا ذَكروا أَوطانَهم ذكَّرَتْهُمُ ... .. عُهودَ الصِبا فيها فحنّوا لِذَلِكَا
وكلام ابن الرومي هذا أفضل وأصدق من قول شوقي:
وطني لو شُغِلْتُ بالخُلدِ عنه ..... نازعتني إليه في الخلُدِ نفسي
ونسي شوقي أن جنة الخلد هي الوطن الأول لنا _بني آدم_ ونسأل الله _بلطفه وكرمه_ أن يجعلها لنا الموطن الأخير، ولقد كان مكر إبليس يدور حول إخراج أبينا آدم من وطنه، والخروج من الوطن هو عنوان الشقاء، قال الله تبارك وتعالى: ?فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى?. سورة طه الآية (117).
وقال القائل: يا آمري أن أحثَّ العِيْسَ عَنْ وَطَنِي ** لمَّا رَأَى الرِّزْقَ فِيْه لَيْسَ يُرْضِيْنِي
نَصَحْتَ لَكِنَّ لِي قَلْبًا يُنَازِعُنِي ... فَلَو تَرَحَّلْتُ عَنْهُ حَلَّهُ دُوْنِي
فتذكروا موطنكم الأول ولا تنسوه، واحذروا عدو أبيكم وعدوكم فلا تطيعوه، فإن المؤمن لا يخدع من عدو واحد مرتين.