قال بلاشير: لقد كتب علماء الغرب كثيراً عن ابن حزم 00وأ ذكر- فيما أذكر – .. وهنا أخذت أسجل ما سوف يقول–: أن زميلنا الإسباني غارسيا كوميز
Garcia Gomeiz كتب كثيراً من المقالات عن ابن حزم , ومن الفرنسيين كتب فلان وفلان , ومن الألمان كتب فلان وفلان .. وامتلأت الصفحة الأولى بالأسماء، ولحقتها الثانية، فالثالثة، وكادت تمتلئ الرابعة .. فقلت في نفسي: هذا غير متخصص في الأدب الأندلسي 000وأملى عليَّ أربع صفحات، فكيف لو كان متخصصاً؟
وختم حديثه بقوله:
لا بُدَّ يا ولدي من قراءة ما كتب العلماء الغربيون، وتصنيف أقوالهم إلى جانب أقوال العلماء العرب، وتميز الحق من غير الحق .. وتكتب رسالتك في آخر الأمر.
قلت له:
أنا لا أعرف اللغة الأسبانية، ولا اللغة الألمانية، فكيف أقرأ ما كُتب فيهما
قال بلاشير:
معك من أبنائي الفرنسيين الذين هم اليوم في صفك، جاءا معي، ليتعلما اللغة الدارجة الشامية، وهما: جيرار تروبو GirardTroupeau وأندري ميكيل AndreMickel.. وسأطلب منهما أن يترجما لك ما تريد000
قلت: وأين أجد هذه الكتابات؟
قال: تجد معظمها في المعهد العربي الفرنسي بدمشق .. الذي يعمل فيه أستاذكم الدكتور سامي الدهان، وفي المعهد كل المجلات العلمية الأوربية، والصادرة في كل اللغات0
وخرجت أجر قدمي , وألعن السنة التي قادتني إلى هذا العملاق العلمي الرهيب .. واتفقت مع جيرار تروبو على أن أعلمه العامية الشامية، و يترجم لي من الإسبانية والألمانية ما أحتاج إليه000
ورحت أكتب الفصل، وأقرأه على أستاذي ليوجهني، ويقول لي رأيه فيه00 وكان كلما قرأت عليه فصلاً هز رأسه وقال لي: تابع .. وانتهيت من الفصل الأخير، والقراءة عليه , وحينئذ أمرني أن أطبع الرسالة , و تلك علامة الموافقة والنجاح. وطبعت الرسالة على الآلة الكاتبة، وقدمتها إليه، فكتب في الصفحة الأولى العبارة التالية: قرأ السيد بكري شيخ أمين عليَّ كل ما كتبه عن شخصية ابن حزم الأندلسي، وأنا أخالفه في أكثر ما ذهب إ ليه، وأمنحه درجة الامتياز بالنجاح0 التوقيع: ريجي بلاشير
قرأت ما سجل أستاذي في الصفحة الأولى، فاستشطت غضباً وغيظاً، ولم أفرح بدرجة (الامتياز)، وقلت بلهجه فيها شيء من الحدة: هل كنت ـ يا أستاذ ـ تسخر مني حين كنت تهز رأسك، وتقول لي: تابع؟؟ لماذا لم تقل لي: إني أخالفك في الرأي؟؟ لماذا لم تُبْدِ لي رأيك؟؟ لماذا؟ لماذا؟؟
كان بلاشير يسمع كلامي، ويهز رأسه، وينتظرني أن يسكت عني الغضب .. فقال: يا ولدي! يا بكري! أنت طالب، ممتاز , مجتهد حقًاً 000لقد قال الآخرون رأيهم فكتبوه لتقرأه أنت وغيرك 000وما الذي يدريني أن رأيك الذي كتبته أنت هو الصواب , ورأيهم هو الخطأ؟ وتابع يقول: لو قلت لك رأيي فنقلته حرفياً , ونقلت ما قال الآخرون حرفياً ... لم نستفد من العلم شيئاً .. بل لم يتقدم العلم برسالتك أنملة واحدة إلى أمام .. سيأتي في يوم من الأيام قارئ بعدي، وبعدك، وسيقرأ ما كتبت أنا أو العلماء الآخرون، وما كتبت أنت .. فقد يأخذ بقولي، أو قد يأخذ بقولك00أو يكون وسطاً .. يأخذ مني شيئاً ومنك شيئاً 000وهكذا يتقدم العلم , وتنشأ الفكرة الجديدة 00لا هي فكرتك، ولا هي فكرتي 000
وانتهى إلى القول:
أحذر يا بني! أن تقسر أحداً على فكرتك أنت , فيكون صورة ثانية منك 00لا شخصية له، ولا عنوان .. اترك للفكر الجديد أن ينطلق , وأن ينا قش , وأن يقول ما يعتقد00
يا بني! انظر إلى كتب العلماء 00كم هي متباينة الاتجاهات .. وانظر إلى الأفكار المطروحة فيها .. كم هي مختلفة .. كلهم علماء .... كلهم مجتهدون ... وهم عماد النهضة، وزينة العلم والحياة ..
وأضاف يقول:
يا بني! ليس لك في العالم الفكري، والأدبي، بل الإنساني، أن تقول: إن هذا لا يكون إلا كذا، ولا يصح إلا كذا .. إياك! ثم إياك! أن تكتب ما يشير إلى رأيك وحده بالإستبداد .. بل قل دائماً: يخيل إليَّ .. يبدو لي .. كأن الأمر كذا000 وبذلك تتيح للآخر أن يظهر و يناقش ... أو لم يقل عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يختلفون، لأنه لو كان قولهم قولاً واحداً لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول أي منهم كان سنة .. بل ألم يقل النبي الكريم: اختلاف أمتي رحمة؟ وفي القرآن الكريم:
" وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ....... " 118 - 119 يوسف
وهنا سالت الدموع من عيني، وأدركت كم كنت تافهاً يوم صرخت في وجه أستاذي، وحملت عليه!! وتذكرت صحة المثل الشائع:
(في المسألة قولان).
ـ[ذو المعالي]ــــــــ[12 - 04 - 10, 11:31 ص]ـ
يتجلى الأدب العلمي هنا بكل تفاصيله.
شكرا لك