.. إنَّ من العلوم المهمَّة لمن أراد أن يعرف الوقف والابتداء علم التفسير وعلم النحو، وعلم القراءات؛ لأن المعنى يُعرف بها، قال ابن مجاهد (ت 324 هـ): " لا يقوم بالتمام [2] إلا نحوي عالم بالقراءة، عالم بالتفسير، عالم بالقصص وتلخيص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن " [3].
... وإذا تأمَّلت هذه العلوم وجدتها ترجع إلى معرفة المعنى الذي هو أساس علم الوقف والابتداء، فمعرفة التفسير واختلافات المفسرين يُعرف بها المعنى، فيعرف الواقف أين يقف بناءً على هذا التفسير أو ذاك.
... ومن أشهر الأمثلة التي يُمثَّل بها في هذا المقام تفسير قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، فمن فسَّر التأويل بما تؤول إليه حقائق القرآن فإنه يقف على لفظ الجلالة؛ لأن علم الحقائق مما يختصُّ به الله، ومن ادعى علمه فقد كذب على الله.
... ومن فسر التأويل بالتفسير جاز له أن يصل لفظ الجلالة بما بعده ويقف على لفظ (العلم)؛ لأن الراسخين في العلم يعلمون تفسيره.
... وأنت تلحظ في هذا المقام كيف اختلف الوقف باختلاف التفسير، وأصل ذلك راجع إلى المعنى المراد بالتأويل، فالمعنى أولاً، ثمَّ يجيء الوقف تبعاً للمعنى.
... ومن أمثلة احتياج علم الوقف والابتداء إلى معرفة النحو ما ذكره النحاس (ت 338 هـ) في استشهاده على ذلك بأن الاختلاف في إعراب لفظ (مِلَّة) من قوله تعالى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] يورث اختلافاً في صحة الوقوف على لفظ (حرج) من عدمه، قال: " ويحتاج إلى معرفة النحو وتقديراته؛ ألا ترى أن من قال (ملةَ أبيكم إبراهيم) منصوبة بمعنى كَمِلَّةِ، وأعمل فيها ما قبلها = لم يقف على ما قبلها. ومن نصبها على الإغراء وقف على ما قبلها " [4].
... ومن أمثلة اختلاف الوقف باختلاف القراءات ما ذكره طاهر بن غلبون (ت 399 هـ) في الاختلاف في قراءة (ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ) من قوله تعالى {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58]، قال: " وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي (ثلاثَ عوراتٍ) بنصب الثاء، ورفعها الباقون.
... فمن نصب لم يبتدئ به؛ لأنه بدل من قوله (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)؛ التقدير: ليستأذنكم هؤلاء لأوقات ثلاث عورات، فلذلك لا يجوز أن يقطع منه.
... ومن رفع جاز له الابتداء به لأنه مستأنف، وذلك أنه يوقعه على إضمار مبتدأ؛ تقديره: هذه ثلاث عورات، أو يرفعه بالابتداء، والخبر في قوله (لكم) [5].
______
... [1] القطع والائتناف للنحاس، تحقيق الدكتور أحمد خطاب العمر (ص 97).
... [2] يريد: الوقف.
... [3] القطع والائتناف (ص 94).
... [4] القطع والائتناف (ص 95).
... [5] التذكرة في القراءات لطاهر بن عبد المنعم بن غلبون، تحقيق الدكتور عبد الفتاح بحيري إبراهيم (2: 571).
... انتهى من كتابه (المحرر في علوم القرآن، ص 252 - 254، ط 2 دار ابن الجوزي). وكان قد قال - أيضا - في كتابه الماتع (أنواع التصنيف المتعلقة بتفسير القرآن) عن كتب الوقف والابتداء:
... " إنَّ لعلم الوقف والابتداءِ علاقةً أكيدةً بعلمِ التَّفسيرِ، إذ هو أثرٌ من آثارِ التَّفسيرِ. ذلك أنَّ مَنِ اختارَ وقفاً، فإنَّه اعتمد المعنى أوَّلاً، ثُمَّ وقفَ، فالواقفُ يفسِّرُ، ثُمَّ يقِفُ، فهو بوقفِه على موضعِ الوقفِ يبيِّنُ وجه المعنى الذي يراه.
¥