تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[نجوى الرافعي،، للعلامة: محمود شاكر - رحمهما الله]

ـ[أسامة بن سعد الهادي]ــــــــ[17 - 06 - 10, 11:50 ص]ـ

أيها العزيز:

"في القلب تعيش الأرواحُ الحبيبة الخالدة التي لا تَفْنَى، وفي القلبِ تُحْفَرُ القبورُ العزيزة التي لا تُنسى"، هكذا قلت "وعواطفي تشيِّع الميتَ الحبيب مطرِقةً صامتة"، واليوم ماذا أقول؟ أمَا إنك لتعلم - أيها الحبيب - أن الذي بيني وبينك دنيا تمشي الأحزانُ في أرجائها نائحةً باكية، لستُ أكفر بأنعُم الله عليَّ أو عليك، كلا، كلا! لقد ذهبتَ إلى ربِّك راضيًا مرضيًّا فرِحًا بلقائه، مؤمنًا بما زيَّن في قلبك من الإيمان، وبقيتُ أنا لأبحث عن أحبابي بعدَك، لأفقد لذَّة المعرفة التي يفيض فيضها من الصداقة والحب، لأتلدَّدَ ها هنا وها هنا حائرًا أنظر بمن أثق، لأجدَ حرَّةَ القلب، وكَمد الرُّوح، وألَم الفكر من حبي وصَداقتي، لأسيرَ في أوديةٍ من الأحزان بعيدة: أمشي وحدي، وأبكي وحدي، وأتأَلَّم وحدي، لا أجدُ من أنفُضُ إليه سرَّ أحزاني.

ذهبتَ وبقيتُ، لأتعلَّم كيف أُنافق بصداقتي بعضَ النفاق؛ لأنهم يريدون ذلك، لأجيد مهنة الكذب على القلب؛ لأنهم يجيدون ذلك، لأتعلَّم كيف أنظر في عيونهم بعينين لئيمتين يلتبس في شعاعهما الحبُّ والبغض؛ لأنه هو الشعاع الذي يتعاملون به في مَوَدَّاتهم، لأُفْنِيَ بقائي في معانيهم المتوحشة؛ إذ كانوا هكذا يتعايشون، لأحطِّم بيديَّ بنيان الله الذي أَمَرَنا بحياطته، وأتعبَّد معهم للأوثان البغيضة الدميمة التي أنشأتْؤها أيديهم المدنسةُ القذرة، لأجني الثمار المرة التي لا تحلو أبدًا، ولكنهم يقولون لي: هذا ثَمَرٌ حُلوٌ، فلماذا لا تأكل كما يأكل الناس؟!

ذهبتَ - أيها الحبيب - وبقيتُ، بقيتُ في الحياة التي أوَّلها لذةٌ، وآخرها لذْعٌ كأحرِّ ما يكون الجمرُ حين يتوهج، بقيتُ للحياة التي تريدُ أن تسلُبَ القلبَ براءَةَ الطفولة لتملأهُ إثمًا وخداعًا وشهوةً، بقيتُ على الحياة في الأرض التي تميدُ وترجفُ وتحتدمُ من تحتي؛ لأنها تنكر الإيمان الذي يمد بسببٍ إلى السماء، بقيتُ بقاءَ حبة القمح في رمال الصحراء المجْدبة، لا أجدُ مائِي ولا ترْبتي، ولا من يزرَعُني.

شدَّ ما اختلفتْ عليَّ أحداثُ الحياةِ من بعدِكَ أيها الحبيب! كنتُ أشكو إليكَ ما أُلاقي من ظمأ الروح الهائمة، وهي تطوف بحسراتها على ينابيع الحياة لا تنتهي ولا تستطيع أن ترِدَ، كنتُ أبثُّك أحزاني وهي جالسةٌ توقِد النارَ على نفسي، وتؤرِّثها بأفكاري القلقة التي لا تهدأ ولا تنقطع، كنتُ أشكو إليك آلامَ الشَّوْكِ الذي تنْبِتُهُ في قلبي الشُّكوكُ العاملةُ الناصبةُ، التي جعلتْ همَّها تعذيبي بالحيرةِ والخوفِ والحرمان، والحقيقةِ المؤلمة أيضًا، كنتُ أجدُكَ حين ينبغي أن أَجدَك، لأقول لك ما يحبُ عليَّ أن أقول.

شدَّ ما اختلفتْ عليَّ أحداثُ الحياةِ من بعدِكَ أيها الحبيب! وهأنذا أريدُ أن أجدَ بعدَكَ من أضعُ في يديه الرفيقتين هذه الجروحَ الداميةَ النابضةَ التي أسمِّيها قلبي، أريدُ أن أضعَ أفكارِي التائهة في بيداءِ الظنون المقفرة، بحيثُ تجدُ مَن يتولى أمر إرشادها إلى رَوْضة اليقين الناضرة، أريدُ أن أجدَ مَلْجئي المؤمن حينَ تطارِدُني من الظنِّ صعاليكُه الكافرة، أُريدُ أن أعرفَ لذَّة الصداقة والحبِّ حين لا أجدُ من الحياة إلاَّ آلامَ صداقتي وحبِّي، أريدُ، أريدُ! أريدُ مَنْ أقول له: هأنذا بعَذَابي وضَعْفي وخُضُوعي، فيقول: وهأنذا بصبري وقوَّتي وحبي لك، أُريدُ من أقولُ له: هذه جروحي التي تَنْفُثُ الدَّمَ، لا ترْقأُ ولا تستريحُ ولا تبرأُ إلاَّ على وعيٍ من دَمِها؛ فيقول لي: وهذا طِبِّي الذي يحسمُ هذا الدم لتستريحَ وتبرأَ من أَلم النزيف، يا بُنيَّ!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير