تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[مقال ماتع: العقيدة و الرأي , لأحمد أمين]

ـ[أبو بكر الغنامي]ــــــــ[09 - 08 - 10, 01:56 م]ـ

قرأتُ في فيض الخاطر للأستاذ الأديب أحمد أمين - غفر الله له - ما نصّه:

الرَّأي والعقيدة

فرقٌ كبيرٌ بين أنْ ترى الرّأي و أنْ تعتقده , و إذا رأيت الرّأي فقد أدخلته في دائرة معلوماتك , و إذا اعتقدته جرى في دمك , و سرى في مخّ عظامك , و تغلغل في أعماق قلبك.

ذو الرّأي فيلسوفٌ , يقول: " إنّي أرى الرّأي صواباً و قد يكون في الواقع باطلاً , و هذا ما قامتْ الأدلة عليه اليوم و قد تقوم الأدلة على عكسه غداً , و قد أكون مخطئاً فيه و قد أكون مصيباً ".

أمّا ذو العقيدة؛ فجازمٌ بات لا شكّ عنده و لا ظن , عقيدته هي الحقّ لا محالة , هي الحقّ اليوم و هي الحقّ غداً , خرجتْ عن أنْ تكون مجالاً للدليل , و سمتْ عن معترك الشّكوك و الظّنون.

ذو الرّأي فاترٌ أو باردٌ , إن تحقق ما رأى ابتسم ابتسامةً هادئةً رزينةً , و إن لم يتحقق ما رأى فلا بأس , فقد احترز مِن قبل بأنّ رأيه صوابٌ يحتمل الخطأ , و رأي غيره خطأٌ يحتمل الصّواب.

و ذو العقيدة حارٌ متحمسٌ لا يهدأ إلا إذا حقق عقيدته , هو حرج الصّدر , لهيف القلب, تتناجى في صدره الهموم , أرّق جفنه و أطال ليلَه تفكيرهُ في عقيدته , كيف يعمل لها , ويدعو إليها , وهو طلقُ المحيّا مُشرقُ الجبين , إذا أدرك غايته , أو قارب بغيّته.

ذو الرّأي سهلٌ أن يحوّل و يتحوّر , هو عبد الدّليل , أو المصلحة تظهرُ في شكل دليل.

أمّا ذو العقيدة فخير مَظهرٍ له ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو وضعوا الشّمس في يمني و القمر في شمالي على أنْ أدعَ هذا الذي جئتُ به ما تركته " (1) , وكما يتجلّى في دعاء عمر: " اللّهم إيماناً كإيمان العجائز " (2).

لقد رووا عن سقراط أنّه قال: " إنّ الفضيلة هي المعرفة " , و ناقشوه في رأيه , و أبانوا خطأه , و استدلّوا بأنّ العلم قد يكون في ناحية و العمل في ناحية , و كثيراً ما رأينا أعرف النّاس بمضار الخمر شاربها , و بمضار القمار لاعبه , و لكن لو قال سقراط: " إنّ الفضيلة هي العقيدة " , لم أعرف وجهاً للرّد عليه , فالعقيدة تستَتبع العمل على وفقها لا محالة - قد ترى أنّ الكرم فضيلةٌ ثم تبخل , والشّجاعة خيرٌ ثم تجبن , و لكن محالٌ أنْ تؤمن بالشّجاعة أو الكرم , ثم تبخل أو تجبن.

العقيدة حقٌ مشاعٌ بين النّاس على السّواء , تجدها في السّذّج , و في الأوساط , و في الفلاسفة - أمّا الرّأي فليس إلا للخاصّة الذين يعرفون الدّليل و أنواعه , و القياس و أشكاله , و النّاس يسيرون في الحياة بعقيدتهم , أكثر مما يسيرون بآرائهم , و المؤمن يرى بعقيدته ما لا يرى الباحث برأيه , قد مُنح المؤمن من الحواس الباطنة و الذّوق ما قصر عن إدراكه القياس و الدّليل.

لقد ضلّ مَنْ طلب الإيمان بعلم الكلام و حججه و براهينه , فنتيجة ذلك كلّه عواصفٌ في الدّماغ أقصى غايتها أن تُنتجَ رأياً , أمّا الإيمان والعقيدة فموطنها القلب , و وسائلها خيوطٌ بين الأشجار و الأزهار و البحار و الأنهار و بين قلب الإنسان؛ و مِن أجل هذا كانتْ {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} - الغاشية - , أفعل في الإيمان مِن قولهم: " العالم متغيّر و كلّ متغيّر حادث "؛ فالأوّل عقيدةٌ و الثّاني رأيٌ.

النّاس إنّما يخضعون لذي العقيدة , و ليس ذوو الرّأي إلا ثرثارين , عنوا بظواهر الحجج أكثر مما عنوا بالواقع , لا يزالون يتجادلون في آرائهم حتّى يأتي ذو العقيدة فيكتسحهم.

قد يجود الرّأي , و قد ينفع , و قد يُنير الظّلام , و قد يُظهر الصّواب , و لكن لا قيمة لذلك كّله مالم تدعمه العقيدة , و قلّ أن تُؤتى أمة مِن نقصٍ في رأيها , و لكن أكثر ما تُؤتى مِن ضعف في العقيدة , بل قد تُؤتى مِن قبل كثرة الآراء أكثر مما تُؤتى مِن قلّتها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير