فصلى الله على نبينا كلما ذكره الذاكرون، وَغَفَل عن ذكره الغافلون، وصلى عليه في الأولين والآخرين، أفضلَ وأكثرَ وأزكى ما صلى على أحد من خلقه. وزكانا وإياكم بالصلاة عليه أفضل ما زكى أحداً من أمته بصلاته عليه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته، وجزاه الله عنا أفضل ما جزى مرسلاً عن من أُرسل إليه؛ فإنه أنقذنا به من الهلكة، وجعلنا في خير أمة أخرجت للناس، دائنين بدينه الذي ارتضى، واصطفى به ملائكته ومن أنعم عليه من خلقه. فلم تُمس بنا نعمة ظهرت ولا بَطَنَت، نلنا بها حظاً في دين ودنيا أو دُفِعَ بها عنا مكروه فيهما، وفي واحد منهما: إلا ومحمد صلى الله عليه سببها، القائدُ إلى خيرها، والهادي إلى رشدها، الذائدُ عن الهلكة وموارد السَّوء في خلاف الرشد، المنبِّهُ للأسباب التي تورد الهلكة، القائمُ بالنصيحة في الإرشاد والإنذار فيها. فصلى الله على محمد وعلى آل محمد كما صلى على إبراهيم وآل إبراهيم إنه حميد مجيد.
وأنزل عليه كتابه فقال: {وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. تنزيل من حكيم حميد} فصلت 41، 42. فنقلهم من الكفر والعمى إلى الضياء والهدى، وبيَّن فيه ما أَحَلَّ: مَنَّاً بالتوسعة على خلقه، وما حَرَّمَ: لما هو أعلم به من حظهم في الكفِّ عنه في الآخرة والأولى. وابتلى طاعتهم بأن تَعَبَّدَهُم بقول، وعمل وإمساك عن محارمَ حَمَاهُمُوها، وأثابهم على طاعته من الخلود في جنته، والنجاة من نقمته: ما عَظُمَت به نعمته جل ثناؤه.
وأَعلَمَهُم ما أَوجب لأهل طاعته.
وَوَعَظَهُم بالأخبار عمن كان قبلهم، ممن كان أكثرَ منهم أموالاً وأولاداً، وأطولَ أعماراً، وأحمدَ آثاراً، فاستمتعوا بخلاقهم في حياة دنياهم، فأذاقهم عند نزول قضائه مناياهم دون آماله، ونزلت بهم عقوبته عند انقضاء آجالهم، ليعتبروا في أنف الأوان، ويتفهموا بِجَلِيَّة التبيان، ويتنبهوا قبل رَين الغفلة، ويعملوا قبل انقطاع المدة حين لا يُعتِب مذنب، ولا تؤخذ فدية، و {تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً} آل عمران: 30
فكل ما أَنزل في كتابه - جل ثناؤه - رحمة وحجة، عَلِمه من علمه، وجهله من جهله، لا يعلم من جهله، ولا يجهل من علمه.
والناس في العلم طبقات، موقعُهم من العلم بقدْر درجاتهم في العلم به.
فحقَّ على طلبة العلم بلوغُ غاية جهدِهم في الاستكثار من علمه، والصبرُ على كل عارض دون طَلَبِه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يُدرَك خيرٌ إلا بعونه.
فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل بما علِم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونَوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة.
فنسأل اللهَ المبتدئَ لنا بنعمه قبل استحقاقها، المديمَها علينا مع تقصيرنا في الإتيان إلى ما أوجب به من شكره بها، الجاعِلَنَا في خير أمة أخرجت للناس: أن يرزقنا فهماً في كتابه، ثم سنة نبيه، وقولاً وعملاً يؤدي به عنا حقه، ويوجب لنا نافلة مزيدة.
قال الشافعي: فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها.
قال الله تبارك وتعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} إبراهيم: 1
وقال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون} النحل: 44
وقال: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمةً وبشرى للمسلمين} النحل: 89
وقال: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا، ما كنتَ تدري ما الكتابُ، ولا الإيمانُ، ولكن جعلناه نوراً نَهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} الشورى: 52))
و لعلها طويلة لمنها من أروع المقدمات و أشدها فصاحة و بلاغة. و قد كان الشافعي رحمه الله تعتاغلى كذلك حتى أثنى عليه الجاحظ و كثيرون.