[آخر حراس القصى (من ترجمتي)]
ـ[محمد بن ماهر]ــــــــ[13 - 09 - 10, 10:58 ص]ـ
آخر حراس الأقصى قصة جميلة ترجمتها، تحمل دلالات كثيرة
صالح كولن http://www.hiramagazine.com/images/yildiz.gif (http://www.hiramagazine.com/archives_show.php?ID=401&ISSUE=20#alt) / قصة
- هنا رأيتُه يا محمد، هنا في هذا الفناء ...
كان يشير إلى مكان في مجسّم المسجد الأقصى ... (**) بصوت حزين كرر جملته:
- نعم، هنا رأيتُه ... وامتلأت عيناه بالدموع ...
بدأ حفيده محمد ينظر إليه وينظر إلى المجسّم بغرابة دون أن يجد معنى لذلك ... كان جده يبكي، وكانت دموعه تسيل وكأنها ينبوع يتسلل من بين الصخور وينحدر بهدوء على لحيته البيضاء الناصعة. كان يشير إلى المكان وهو شارد في تفكيره وغارق في تأملاته ...
سأل محمد ببراءة:
- ماذا حدث لك يا جدي؟!
لم يكن جده يسمعه، إذ كان مستغرقاً في عالم الماضي ... انتظر محمد برهة ثم هز يد جده برفق وقال:
- هل أنت بخير يا جدي! ما بك؟ ماذا حدث لك فجأة؟!
تنفّس الجد الصعداء وعيناه على المجسم ... وبعد فترة التفت إلى حفيده وحاول أن يبتسم رغم الدموع التي تملأ عينيه، ولكنه لم يفلح ... تنهد من الأعماق مرة أخرى ثم قال:
- هذا المجسّم، أعادني خمساً وثلاثين سنة إلى الوراء يا بني ...
لم يفهم الحفيد الواعي ما يقصد جدُّه من هذه الكلمات ... تمتم العجوز وهو يمسح دموعه:
- نعم ... سنوات طويلة قد مضت كلمْح البصر ...
سأل الحفيد محاولاً فهم ما يقول جده ...
- ماذا تقصد يا جدي، أيّ سنوات؟!
ركع الجد بهدوء متكئاً على عصاه، ثم جلس مقابل مجسّم المسجد الأقصى وقال بحرقة قلب:
- قبل اثنتين وثلاثين سنة، في عام 1972 ... كنت صحفياً شاباً، وكان أبوك في ذلك الوقت مثلكَ في الحادية عشرة من العمر ... في تلك السنة كان بعض السياسيين ورجال الأعمال قد قاموا بزيارة رسمية للأراضي الشريفة، وكانت مهمتنا نحن كصحفيين، مراقبة التطورات والأحداث. تركتُ أباك وعمك وجدتك عند أبي، حتى إن أبي رحمه الله كان يقول دائماً: "هذا الولد لم يجد عملاً مناسباً حتى الآن، سيُشقي نفسه وسيُشقي عياله معه" ... كانت الزيارة ستستغرق أربعة أيام ... وصلنا القدس مساء يوم حار من شهر أيار ... جرت اتصالات رسمية ...
وفي اليوم الرابع نظموا لنا جولة إلى الأماكن التاريخية والسياحية في هذه الأراضي ... كنت متلهفاً لرؤية القدس والمسجد الأقصى ... كان الجو حارقاً وكان جسمي يتصبب عرقاً ... وصلنا إلى المسجد الأقصى ضمن قافلة ... كنتُ منفعلاً غاية الانفعال ... حتى إني عندما رفعتُ الكاميرا لأصوّر شعرتُ بأن يدي ترتجف ... صعدنا الدرجات التي تراها هنا ... هذا الفناء العلوي يسمونه فناء الاثني عشر ألف شمعة، لأن السلطان سليم الأول عندما فتح القدس كان قد أشعل في هذا الفناء اثني عشر ألف شمعة، وصلّى الجيش العثماني صلاة العشاء في ضوء تلك الشموع ...
فقاطعه الحفيد وقال بحماس:
- كان أستاذنا يقول لنا إن العثمانيين فتحوا بيت المقدس عام 1516 للميلاد.
- نعم ... هذا صحيح يا بني ...
- وماذا حدث معكم في المسجد الأقصى يا جدي؟!
تابع الجد بأسى:
- بعد ذلك لفت نظري رجل في زاوية من زوايا الفناء ... رجل في التسعينات من العمر ... وعليه بذلة عسكرية قديمة جداً ومليئة بالرقع ... حتى إن بعض هذه الرقع قد أعيد ترقيعها مرة أخرى ... وكان يضع على رأسه أنورية ... كان واقفاً هناك بشموخ وإباء ... عرتني الدهشة ...
- إيه يا جدي، ومَن كان ذلك الرجل؟!
- وأنا أيضاً أصابني الفضول لمعرفته ... قلت في نفسي: لماذا يقف هذا الرجل تحت الشمس الحارقة هكذا ... ثم سألت الدليل عنه، فقال إنه منذ أن وعى وهو يرى هذا الرجل في هذا المكان يقف كالتمثال حتى المساء كل يوم ... لا يتكلم مع أحد ولا يردّ على أحد ... يقف منتصباً فقط، ولعله مجنون ... كان يصمه بالجنون، أما أنا فقد ازدادت لهفتي لمعرفة هذا الرجل والسبب الذي يجعله يقف تحت الحر الشديد ها هنا ... اقتربتُ منه بدافع الفضول الصحفي ... كان لباسه قديماً جداً، باهت اللون، ولكنه كان نظيفاً ...
- إيه يا جدي وماذا حدث بعد ذلك!؟
¥