تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

- عندي طلب منك يا بني ... احتفظتُ بهذه الأمانة منذ سنوات طويلة ... هل توصلها إلى أهلها؟ .. أجبتُه:

- بكل تأكيد، طلبُك أوامر يا عم حسن ... قال:

- يا بني ... عندما تعود إلى الأناضول اذهب إلى "سنجق توكات"، فهناك ضابطي النقيب مصطفى الذي أودعني هنا حارساً على المسجد الأقصى، ووضعه أمانة في عنقي ... فقبِّل يديه نيابة عني وقل له: "سيدي الضابط، إن العريف "حسن الإغْدِرلي" رئيس مجموعة الرشاش الحادية عشرة، الحارس في المسجد الأقصى، ما زال قائماً على حراسته في المكان الذي تركته منذ ذلك اليوم، ولم يترك نوبته أبداً ... وإنه لَيرجو دعواتكم المباركة" ...

- فقلت: "أمراً وطاعة يا عم، سأحملُ سلامكَ بكل سرور". كنتُ أحاول إخفاء دموعي تارة، وكنت أكتب ما يقوله تارة أخرى ...

ثم سألني عن المدينة التي قدمتُ منها. فقلت: "من إسطنبول" ... فأشرقتْ على وجهه ابتسامة ثم قال لي: "إسطنبول، إذن إنك قادم من دار السعادة ... قل لي، ما أحوال الدولة العثمانية؟ .. سكتُّ ولم أستطع أن أخبره أن الدولة العثمانية قد انهارت ولم يبق من أراضيها المديدة التي تشهد شروق الشمس وغروبها إلا بقعة صغيرة وهي تركيا ... لم أستطع أن أخبره بما فعله الإنكليز والأرمن والروم وفرنسا ... ولم أستطع أن أقول له إننا لم نقدر على الصمود أمام أعدائنا مثلكم ... لم أستطع أن أقول له إن الذين كانوا بالأمس يتلقون الأخلاق والفضيلة والعلوم منا، أصبحوا اليوم هم يعلّموننا ... ولكن استطعتُ أن أقول له فقط: "بخير ... دولتنا بخير" ...

عندها سألني بفضول:

- إنْ كانت دولتنا بخير لِمَ لا تأتي وتخلّص القدس من هؤلاء الكفرة؟!

فلم أجد ماذا أقول ... إنما كل ما استطعت قوله: ستعود إن شاء الله ستعود يوماً ... ثم أقبلتُ على يديه الخشنتين الطاهرتين وقبّلتهما بحرارة ... ثم قلتُ: اسمح لي يا عم حسن، عليّ أن أذهب، أرجوك لا تنسانا من دعائك، اعتن بنفسك جيداً، أستودعك الله ... فقال: رضي الله عنكَ يا بني، بلّغ سلامي الأناضول ... وسلّم على الدولة العلية ...

- وماذا حدث بعد ذلك يا جدي؟!

عدتُ إلى القافلة وما زالت الدهشة تغمرني ... بدا وكأن تاريخ أجدادنا المجيد عاد حياً وانتصب واقفاً أمامي ... كانت الفرص الضائعة، والأعمال التي لم تؤدَّ، وعدم الشعور بالمسؤولية، تنزل على رأسي كالصاعقة ... ما زال جنديٌ من جنود الدولة الغالية على قلبي، يقوم بحراسة القدس، وما زال منتصباً هناك بوقارِ ومهابةِ الدولة العثمانية! ..

شرحتُ للدليل خطْب العريف حسن، ثم أعطيتُه عنواني وطلبتُ منه أن يخبرني عن أحواله ما استطاع إليه سبيلاً ...

- وماذا حدث بعد عودتكَ إلى تركيا يا جدي؟!

- كان عليَّ أن أفي بالعهد ... فذهبتُ إلى مدينة "توكات" ... وبعد جهد جهيد عثرتُ على عنوان النقيب مصطفى ... إلا أنه كان قد توفي منذ سنوات طويلة ... لم أستطع أن أفي بعهدي ...

تعاقبت السنوات ... وفي يوم من الأيام في عام 1982 وأنا أعمل في وكالة الأنباء، جاءتني برقية من القدس الشريف، فقلتُ في نفسي: "غريب، ومِن مَن؟! فوجدتُ أنها قد أُرسلتْ من قبَل ذلك الدليل ... فيها بضعة كلمات، لكنها تلخّص تاريخاً مجيداً فيه شهامة وشجاعة وعز وكرامة: "لقد توفي اليوم آخر حُرّاس الأقصى" ...

ــــ

(*) الترجمة عن التركية: محمد ماهر قفص. وهي قصة حقيقية وقعت في القدس الشريف مع الصحفي التركي "إلهان بردكجي" رحمه الله.

(**) مجسّم المسجد الأقصى؛ يوجد في متحف المصغرات بإسطنبول، حيث يُعرَض في هذا المتحف مصغرات معالم تركيا والعالم أجمع، وتبلغ مساحته 60 ألف متر مربع.

ــــــــــــــــــــــ

(*) كاتب وباحث تركي

http://www.hiramagazine.com/archives_show.php?ID=401&ISSUE=20

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير