وقد ارتبط تكوين الذهبي الفكري بالحديث والمحدثين فأثر ذلك تأثيراً واضحاً في منهجه التاريخي حيث ربطه بالحديث وعلومه، واهتم بالتاريخ فسمع على شيوخه الكثير من كتب المغازي، والسير، والتاريخ العام، والمشيخات. وقد زادت مؤلفاته عن المائتين مصنف في شتى العلوم. منها في التاريخ والتراجم ست وسبعون كتاباً ورسالة.
من شيوخه أبو الحجاج يوسف بن عبدالرحمن المزي ت742هـ وشيخ الإسلام ابن تيمية ت728هـ وعلم الدين أبو محمد القاسم بن محمد البرزالي ت789هـ. وقد اختصر الذهبي مايزيد على خمسين كتاباً ولم تكن اختصاراته عادية يغلب عليها الجمود بل في هذه الاختصارات إضافات كثيرة وتعليقات نفيسة، واستدراكات بارعة، وتصحيحات وتصويبات، ومقارنات تدل على معرفته وتبحره. ([5])
قال عنه تلميذه الصفدي:» حافظ لايجارى ولافظ لايُبارى، أتقن الحديث ورجاله، ونظر عللهُ وأحواله، وعرف تراجم الناس، وأزال الإبهام في تواريخهم، لم أجد عنده جمود المحدثين ولا كودنة النقلة بل هو فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس، ومذاهب الأئمة من السلف وأرباب المقالات «. ([6])
وقال عنه التاج السبكي: كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها ثم أخذ يُعبَّر عنها إخبار من حضرها. ([7]) وقال عنه السخاوي:» وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال «. ([8])
ومن درس علم التاريخ لاتخفى عليه مكانة هذا الإمام الجهبذ الذي له من اسمه نصيب حيث يجد الباحث لديه العمق ومحاولة التحقق من الأحداث والعدل في الأحكام مع السعة المكانية والزمانية
نبذة عن الدولة العبيدية:
الدولة العبيدية أو ما تسمى بالدولة الفاطمية أُسست في تونس سنة 297هـ وانتقلت إلى مصر سنة 362هـ واستقرت بها وامتدت إلى أجزاء هامة من العالم الإسلامي، حيث شمل سلطانها الشام، والجزيرة العربية، وحاولت الوصول إلى بغداد، وكان عهد هذه الدولة عهد اضطراب، وفتن، وإيذاء لأهل السنة، وتمكين لأهل الذمة، وتخلل هذه الفترة أوضاع اقتصادية سيئة مثل الشدة العظمى زمن المستنصر التي أكل الناس فيها الكلاب والبشر، وإحراق القاهرة زمن الحاكم، والمصادرات التي كانت تتم على فترات متفرقة، والتعاون مع الصليبيين على المسلمين، والمتأمل في تاريخ هذه الدولة ينتابه العجب مما يرى من الاختلاف في حال هذه الدولة وكثرة الكتابات حولها حيث انقسم الكتاب حولها إلى قسمين:
القسم الأول: ذام شاتم بل مكفر لها وهو موقف غالبية المؤرخين والأئمة مثل الباقلاني، وأبو حامد الغزالي، وابن خلكان، وعبدالجبار الهمذاني، وابن ظافر الأزدي، وأبو شامة، والذهبي، وابن كثير، وابن تيمية، وابن تغري بردي، وابن حجر، والسيوطي.
القسم الثاني: مادح ممجد لها مصحح لنسبها معتذر لها مثل ابن خلدون، والمقريزي وهو موقف عجيب وخاصة موقف الأخير؛ حيث يصحح النسب مع أنه يتتبع مخازي وأخبار الدولة. ([9]) ويحاول بكل ما أوتى من جهد الدفاع عنها وتصحيح نسبها.
ويتبع القسم الثاني غالبية المؤرخين المحدثين والذين يصححون نسب هذه الدولة، وبعضهم يفخر بإنجازاتها وأحيانا بانحرافاتها وهذا الموقف صعب التفسير، وصعب القبول.
ومن أشهر أهل القسم الأول - والذين لهم اعتبار ولكلمتهم معنى ووزن - الإمام الذهبي: الذي كان واضحا كل الوضوح في موقفه من هذه الدولة ونسب حكامها، وملتهم، ومذهبهم وأعتمدت في هذا البحث من كتب الذهبي على تاريخ الإسلام، وسير أعلام النبلاء، ودول الإسلام، والعبر في خبر من غبر وهذا عرض مفصل لأقواله وأحكامه من خلال هذه المراجع الأساسية:-
موقف الذهبي من نسب الدولة العبيدية:
من الأمور المشكلة في التاريخ الإسلامي والتي صارت أحد مجالات الخلاف في العصر الحديث نسب الدولة العبيدية، وقد تحدث الذهبي عن هذا الأمر كثيراً كلما مر ذكر هذه الدولة أو مر ذكر حاكم من حكامها، ويلاحظ أن حديثه حديث الواثق من المعلومات ونظراً لعلو علم مكانة الذهبي وسعة إطلاعه ودقته في إيراد الأخبار كان لقوله مكان الصدارة. فهو يقول عن المهدي أول حكامها:» وفي نسب المهدي أقوالٌ: حاصِلُها أنَّه ليس بهاشميٍّ ولا فاطميٍّ «([10]) وقال أيضاً:» وادعى هذا المدبر، أَنَّهُ فاطميُّ من ذُرِّية جعفر الصادق «([11])
وقال مبينا رأى كثير من العلماء حول عبيدالله المهدي: «وادعى أنه علوي فاطمي فكذَّبوه». ([12])
¥