ويقول ابن كثير: «إن السنة قد ارتفعت جداً في أيامه [27]. وقد استبشر الناس
بولايته فإنه كان محباً للسنة وأهلها ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق لا
يتكلم أحد في القول بخلق القرآن [28].
وكان محبباً إلى رعيته قائماً في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم
بالصديق في قتله أهل الردة لأنه نصر الحق ورد عليهم حتى رجعوا إلى الدين،
وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بنى أمية، وقد أظهر السنة بعد البدعة،
وأخمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها فرحمه الله.
هذه بعض أقوال العلماء في المتوكل، وإذا كان يظهر منها تتبعه لأهل البدع
وقمعهم فإن قمعه لبدعة (التشيع) ظاهرة، فقد كان يتبع أخبارهم ويطارد مشايخهم
في أقطار الخلافة، وتتبعه للشيخ (بشر الجعاب) الذي كان يظهر التشيع (بالدينور)
وله أصحاب يجتمعون إليه ويأخذون عنه، كما ذكر قصته مطولة ابن خلكان [29]
نموذج لهذا التتبع، ولعل هدمه لقبر الحسين من هذا الباب، والسؤال المطروح
لماذا تستثير مثل هذه الأعمال ابن الأثير إلى حد يقول معه إنها غطت جميع
حسناته؟!
وفي معرض حديثه عن (المعتضد) ذكر أنه عزم في سنة 286هـ على لعن
معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس. قال ابن
الأثير: (وهو كتاب طويل قد أحسن كتابته، إلا أنه استدل فيه بأحاديث كثيرة
على وجوب لعنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تصح ... ) [30] وهذا
الكتاب ساقه (الطبري) بطوله في أحداث سنة 284هـ[31] وفيه من الغرائب
والأحاديث المنكرة ما لا يتصور، وفوق ما فيه من أحاديث منكرة فهو صريح في
لعن أبي سفيان وابنه معاوية، ويزيد، ومروان بن الحكم بن الحكم وولده وهم -كما
في الكتاب - أئمة الكفر، وقادة ضلالة وأعداء الدين، ومجاهدي الرسول،
ومغيري الأحكام، ومبدلي الكتاب، وسفاكي الدم الحرام؟!! [32] إلى غير ذلك
من شناعات يحار القلم في تدوينها، ويعجز اللسان عن النطق بها والعجب أن يقول
(ابن الأثير) أن الكتاب قد أحسن كتابته!! وكان ينتظر منه أن يقول كما قال ابن
كثير: إن هذا من هفوات المعتضد [33].
ثالثاً: تعاطفه مع الشيعة:
يظهر للمتأمل في (كامل ابن الأثير) تعاطفه مع الشيعة، أو من لهم ميول
(علوية) على الأقل، فتراه كثيراً يترجم للشيعة وخاصة (الإمامية) وربما ذكر بعض
معتقداتهم ولم يعلق عليها، ففي أحداث سنة 305هـ قال: وفيها توفي أبو جعفر
بن محمد بن عثمان العسكري رئيس الإمامية، وكان يدعي أنه الباب إلى الإمام
المنتظر ... [34]، وكما صنع مع (ورام بن أبي فراس) [35] الذي توفي سنة
605 هـ وقال عنه ابن الأثير: وكان صالحاً [36] ويطيل في تراجمهم كما فعل
مع الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن زريك الأرمني وزير العاضد العبيدي،
والمتوفي سنة 556 هـ، والذي نص ابن الأثير على إمامته، وقال عنه: وكان
الصالح كريماً فيه أدب، وله شعر جيد، وكان لأهل العلم عنده إنفاق، ويرسل
إليهم العطاء الكثير، فذكر نماذج لها، ونماذج من شعره أيضاً [37]، وفي ترجمته
للملك الأفضل (علي بن صلاح الدين) [38] أطال في ترجمته كذلك وامتدحه بأشياء
لم يسبغها على أبيه (صلاح الدين) [39] وهو أفضل منه ومما قاله في الأفضل: «
وكان رحمه الله من محاسن الزمان، لم يكن في الملوك مثله، كان خيراً، عادلاً،
فاضلاً، حليماً، كريماً، قل أن عاقب على ذنب، ولم يمنع طالباً .. إلى أن قال:
وبالجملة فاجتمع فيه من الفضائل والمناقب ما تفرق في كثير من الملوك، لا جرم
حرم الملك والدنيا، وعاداه الدهر، ومات بموته كل فعل جليل، فرحمه الله ورضي
عنه» [40].
وتعاطف (المنتصر) العباسي مع العلويين [41] جعلت (ابن الأثير) يقول في
وصفه: كان المنتصر عظيم الحلم، وراجح العقل، غزير المعروف، راغباً في
الخير جواداً كثير الإنصاف، حسن العشرة، وأمر الناس بزيارة قبر علي والحسين
- عليهما السلام - فأمن العلويين وكانوا خائفين أيام أبيه وأطلق وقوفهم وأمر برد
فدك إلى ولد الحسين والحسن ابني علي بن أبي طالب عليه السلام [42] بل نقل
عن بعضهم: إن المنتصر كان شاور في قتل أبيه (المتوكل) جماعة من الفقهاء
وأعلمهم بمذاهبه، وحكى عنه أموراً قبيحة كرهت ذكرها، فأشاروا عليه بقتله فكان
كما ذكرنا بعضه [43].
وفي مقابل هذا التعاطف كان ابن الأثير يعرض ببعض أهل السنة الذين يرى
منهم انحراف عن علي -رضي الله عنه-، كما ذكر في ترجمته لمصعب ابن عبد
الله بن ثابت بن عبد الله بن الزبير [44] وفي حديثه عن الحسن ابن زيد بن الحسن
ابن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ذكره فيمن توفي سنة168 هـ ثم قال عنه:
«وكان قتد استعمله المنصور على المدينة خمس سنين ثم عزله وحبسه ببغداد،
وأخذ ماله فلما ولي المهدي أخرجه ورد عليه ماله، وكان جواداً إلا أنه كان منحرفاً
عن أهل بيته مائلاً إلى المنصور» [45].
وأخيراً فهذا ما تيسر الوقوف عليه في (الكامل لابن الأثير) ويبقى بعد ذلك
كلمة أراها مهمة في نهاية هذه الدراسة، وهي أن هناك صنفين من القراء قد لا
يستفيدون من هذه الدراسة الفائدة المرجوة:
الصنف الأول: يفهم هذه الدراسة فهماً قاصراً ينتقض هذا السفر العظيم
(الكامل)، بل ربما وصل به الأمر إلى انتقاص (ابن الأثير) نفسه، نظراً لوجود
هذه الملاحظات عليه فلا يرى حاجة إلى الاستفادة منه، وإذا ذكر عنده اشمأزت
نفسه، وتمنى لو غيره ذكر!!
والصنف الثاني: على النقيض وهؤلاء بلغت بهم الثقة، ووصل بهم
الإعجاب مبلغاً لا يمكن أن يقبلوا معه نقداً صحيحاً -لا يقلل من قدر الكتاب، ولا
ينقص من قدر مؤلفه - بل يعتبرون هذا النوع من الدراسة هدماً لكتب التراث
وتجنياً على جهود الأسلاف ... إلى غير ذلك من التهم الباطلة.
والحق أن كلا الأمرين قصور في الفهم لا تهدف إليه هذه الدراسة التي أريد
منها مزيد الثقة بهذه النفائس من كتب التراث بعد إيضاح ما فيها من هنات لا يكاد
ينجو منها عمل البشر. والله المستعان.
¥