فقلت له: إن جماعة من العلماء ترخَّصوا في أمر الرسم، وقالوا: إنما هو اصطلاح من الصحابة مشوا فيه على ما كانت قريش تكتب عليه في الجاهلية. وإنما صدر ذلك من الصحابة، لأن قريشًا تعلَّموا الكتابة من أهل الحيرة، وأهل الحيرة ينطقون بالواو في الربا، فكتبوا على وَفْق منطقهم. وأما قريش فإنهم ينطقون فيه بالألف، وكتابتهم له بالواو على منطق غيرهم وتقليد لهم، حتى قال القاضي أبو بكر الباقلاني: كلّ من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، فإنه ليس في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع ما يدل على ذلك؟
فقال: ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها لأسرار لا تهتدي إليها العقول، وهو سرٌّ من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية. وكما أن نظم القرآن معجز، فرسمه أيضًا معجز! وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في «مائة» دون «فئة». وإلى سر زيادة الياء في «بأيْيدٍ وبأبِّيكم»؟ أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الألف في «سَعَوْا» بالحج ونقصانها من «سَعَوْ» بسبأ؟ وإلى سر زيادتها في «عَتَوْا» حيث كان، ونقصانها من «عَتَوْ» في الفرقان؟ وإلى سر زيادتها في «آمنُوا»، وإسقاطها من «بَاؤُ، جَاؤُ، تَبَوَّؤُ، فَاؤُ» بالبقرة؟ والى سر زيادتها في «يَعْفُوا الذي» ونقصانها من «يَعْفُوَ عنهم» في النساء؟
أم كيف تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض، كحذف الألف من «قُرْءانًا» بيوسف والزخرف، وإثباتها في سائر المواضع؟ وإثبات الألف بعد واو «سموات» في فصلت وحذفها من غيرها. وإثبات الألف في «الميعاد» مطلقًا، وحذفها من الموضع الذي في الأنفال، وإثبات الألف في «سِرَاجًا» حيثما وقع، وحذفه من موضع الفرقان؟
وكيف تتوصل إلى فتح بعض التاءات وربطها في بعض؟ فكل ذلك لأسرار إلهية، وأغراض نبوية. وإنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني، فهي بمنزلة الألفاظ والحروف المتقطِّعة التي في أوائل السور، فإن لها أسرارًا عظيمة، ومعاني كثيرة.
وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها، ولا يدركون شيئًا من المعاني الإلهية التي أشير إليها! فكذلك أمر الرسم الذي في القرآن حرفًا بحرف.
وأما قول من قال: إن الصحابة اصطلحوا على أمر الرسم المذكور، فلا يخفى ما في كلامه من البطلان، لأن القرآن كتب في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه. وحينئذ فلا يخلو ما اصطلح عليه الصحابة، إما أن يكون هو عين الهيئة أو غيرها، فإن كان عينها بطل الاصطلاح؛ لأن أسبقية النبي صلى الله عليه وسلم تنافي ذلك وتوجب الاتباع. وإن كان غير ذلك فكيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم كتب على هيئة الرسم القياسي مثلًا، والصحابة خالفوا وكتبوا على هيئة أخرى؟ فلا يصح ذلك لوجهين:
أحدهما: نسبة الصحابة إلى المخالفة، وذلك محال.
ثانيهما: أن سائر الأمة من الصحابة وغيرهم أجمعوا على أنه لا يجوز زيادة حرف في القرآن ولا نقصان حرف منه. وما بين الدفتين كلام الله -عز وجل-، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت ألف الرحمن والعالمين مثلًا، ولم يزد الألف في «مائة» ولا في «ولأوضعوا» ولا الياء في «بأيد» ونحو ذلك، والصحابة عاكسوه في ذلك وخالفوه، لزم أنهم -وحاشاهم من ذلك- تصرفوا في القرآن بالزيادة والنقصان، ووقعوا فيما أجمعوا هم وغيرهم على ما لا يحل لأحد فعله، ولزم تطرق الشك إلى جميع ما بين الدفتين، لأنَّا مهما جوزنا أن تكون فيه حروف ناقصة أو زائدة على ما في علم النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ما عنده وأنها ليست بوحي ولا من عند الله ولا نعلمها بعينها، شكّكنا في الجميع. ولئن جوزنا لصحابي أن يزيد في كتابته حرفًا ليس بوحي، لزمنا أن نجوز لصاحبي آخر نقصان حرف من الوحي، إذ لا فرق بينهما، وحينئذ تنحل عروة الإسلام بالكلية!.
ثم قال ابن المبارك بعد كلام .. فقلت له: فإن كان الرسم توقيفيًّا بوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كألفاظ القرآن فَلِمَ لَمْ ينقل تواترًا حتى ترتفع عنه الريبة وتطمئن به القلوب كألفاظ القرآن؟ فإنه ما مِنْ حرف إلا وقد نقل تواترًا لم يقع فيه اختلاف ولا اضطراب. وأما الرسم فإنه إنما نقل بالآحاد، كما يعلم من الكتب الموضوعة فيه. وما نقل بالآحاد وقع الاضطراب بين النقلة في كثير منه. وكيف تضيع الأمة شيئًا من الوحي؟
فقال: ما ضيعت الأمة شيئًا من الوحي، والقرآن بحمد الله محفوظ ألفاظًا ورسمًا. فأهل العرفان والشهود والعيان، حفظوا ألفاظه ورسمه، ولم يضّيعوا منها شعرة واحدة، وأدركوا ذلك بالشهود والعيان الذي هو فوق التواتر. وغيرهم حفظوا ألفاظه الواصلة إليهم بالتواتر. واختلافهم في بعض حروف الرسم لا يقدح ولا يصير الأمة مضيعة، كما لا يضرّ جهل العامة بالقرآن وعدم حفظهم لألفاظه.
¥