ـ سادساً: لم تكن المعاملة الحسنة التي عومل بها اليهود في أثناء الفتح وبعده، مكافأة لهم على ما قدموه للمسلمين كما يتصور البعض (19)، كما أنها ليست دليلاً على وجود اتفاق مسبق بينهما يقضي بحسن معاملتهم مقابل الخدمات التي يؤدونها للمسلمين. لأن المسلمين قدموا المعاملة نفسها للنصارى وأحسنوا إليهم، وهذا الإحسان هو الذي جذبهم إلى الإسلام، وجعلهم يدخلون في دين الله أفواجاً (20)، وقد انطلق المسلمون في إحسانهم لليهود والنصارى من مبادئ دينهم الذي يوصي خيراً بأهل الذمة (21).
ولو مُيِّز اليهود عن النصارى في المعاملة و الحقوق والواجبات لسجلت كتب التاريخ ذلك، لكنهم كانوا متساوين دائماً في القانون الإسلامي.
وقد ظل هذا التساوي سائداً بين اليهود والنصارى في الأندلس، منذ فتحها وحتى زمن سقوطها، حيث يقول الفقيه المالكي المعروف محمد بن القاسم: "اليهود والنصارى عند مالك سواء". (22).
وفي اعتقادي أن أعظم مكافأة كان اليهود يرجونها من وراء خدماتهم، هو تخليصهم من ظلم واستعبادهم القوط، وقد تحقق لهم أكثر من ذلك، حيث لم يتحرروا من الظلم والاستعباد فحسب، بل فازوا بعدل الحكم الإسلامي وتسامحه.
وقد شهد اليهود أنفسهم بذلك حيث يقول حاييم الزعفراني: "لقد عرفت اليهودية الأندلسية في مجموعها حياة أكثر رخاء، وأكثر اطمئناناً، كما لم تعرفها في مكان آخر" (23).ويقول نسيم رجوان (رئيس تحرير جريدة اليوم الإسرائيلية): "كان اليهود قد عانوا خلال قرون، الكثير من الشقاء والبؤس، حيث كان الملوك الإسبان القساة الغلاظ، بعيدين كل البعد عن الشفقة والرحمة. وعندما دخل المسلمون إسبانيا لم يكتفوا بتحرير اليهود من الاضطهاد، ولكنهم شجَّعوا بينهم نشر حضارة كانت توازي بخصبها وعمقها أشهر الحضارات في مختلف العصور" (24).
ـ سابعاً: هناك إشارات إلى حدوث تعاون يهودي مع المسلمين في أثناء جهادهم في مناطق الشمال الأندلسي بعد مدة طويلة من فتح الأندلس، ومن ذلك تعاون يهود برشلونة مع المسلمين عندما غزوها سنة (235 هـ = 850م)، وقد عاقبهم الإسبان على ذلك بمصادرة أراضيهم (25).
كما جاء في سيرة القديس سانت ثيودارد ( Saint theodard)، رئيس أساقفة أربونة، الذي عاش حوالي سنة (266 هـ = 880م)، أنه لما دخل المسلمون لأول مرة إلى لانجدوك، انحاز اليهود إليهم، وفتحوا لهم أبواب مدينة طولوشة ( Toulouse)، ويضيف كاتب السيرة أن شارمان عاقبهم على خيانتهم، فأمر أن يؤتى كل سنة بمناسبة أعياد اليهود بيهودي، ويصفع أمام الملأ على باب الكاتدرائية (26).
إن حدوث هذا التعاون بعد مضي نحو قرن ونصف على الفتح الإسلامي للأندلس مع عدم ورود إشارة إلى وجود اتفاق مسبق عليه بين المسلمين واليهود، يؤكد إمكانية حدوث التعاون اليهودي مع فاتحي الأندلس الأوائل دون اتفاق مسبق بينهما.
وأعتقد أن الأسباب التي دفعت اليهود للتعاون مع المسلمين بعد مضي مدة كبيرة على الفتح تتشابه مع تلك التي جعلتهم يتعاونون مع الفاتحين الأوائل (27).
- ثامناً: إن فكرة فتح الأندلس، فكرة إسلامية بحتة غير مرتبطة بتشجيع أو وعود من اليهود أو غيرهم، إذ رُوي أن محاولات لفتحها جرت في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه. حيث يقول البكري: "وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كتب إلى من انتدب إلى غزو الأندلس: أما بعد فإن القسطنطينية إنما تفتح من قِبَلِ الأندلس، وإنكم إن استفتحتموها كنتم شركاء من يفتحها في الأجر، والسلام" (28)، ويقول ابن عذاري: "أما دخول المسلمين لها فذكر فيه أربعة أقوال: أحدها أن الأندلس أول من دخلها عبد الله بن نافع بن عبد القيس وعبد الله بن الحصين الفهريّان من جهة البحر في زمن عثمان رضي الله عنه ... ". (29)
كما شهدت الشواطئ الشرقية للأندلس نشاطاً للسفن الحربية الإسلامية، وتمكنت من الوصول إلى جزيرتي ميورقة ( Mayorca) ومنورقة ( Manorca) سنة (89 هـ = 707هـ)، وذلك في الحملة التي جهزها موسى بن نصير، وقادها ولده عبد الله (30).
¥