تبرز مسألة عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد - رضي الله
عنهما - عن قيادة الجيوش، وتُسلِّط الأضواء على روايات ونقول لا تليق بمقام
الصحابة الجليل، وتتغافل عن المتواتر من المنقول الذي يُظهر حقيقة ما كانوا عليه
من الإيمان والتقوى والورع والتجرد في أقوالهم وأفعالهم؛ رضي الله عنهم
وأرضاهم.
وراح كثير منهم ينسج جملة من الأوهام والترهات المستندة إلى روايات منكرة
باطلة، ويزيدون عليها ألف كذبة من ترهات عقولهم المريضة، وأحقادهم الدفينة،
شأنهم شأن الكهان، ثم سمعت عمن يتناقل شيئاً من ذلك عبر الفضائيات في
حوارات وندوات. وليس الأمر كما ذكر المفتونون في دينهم، المخذولون بالقَدْح في الصحابة
- رضي الله عنهم -؛ إذ إن الأمر لا يعدو أن يكون اجتهاداً رأى فيه الفاروق مصلحة
المسلمين، وكان هذا الاجتهاد من عمر - رضي الله عنه - نتيجة لأعمال عملها
خالد - رضي الله عنه - كان مجتهداً فيها أيضاً، أصاب في بعضها وأخطأ في
بعضها، وكلاهما - رضي الله عنهما - بين أجر وأجرين.
* أسباب عزل عمر لخالد - رضي الله عنهما -:
اختلف أهل السير والمغازي في السبب الذي جعل عمر يعزل خالداً عن قيادة
الجيوش، وحاصل ما ذكروا أسباب ثلاثة:
السبب الأول: أن عزله كان بسبب شدته، وكان عمر - رضي الله عنه -
شديداً؛ فما أراد أن يكون الخليفة شديداً وقائد الجيوش كذلك. وكان أبو بكر
- رضي الله عنه - ليناً فناسب أن يكون قائد جنده شديداً، فلما ولي عمر عزل
خالداً وولَّى أبا عبيدة، وكان أبو عبيدة ليناً، فناسب مع أبي بكر ولينه خالد وشدته،
وناسب مع عمر وشدته أبو عبيدة ولينه، رضي الله عنهم.
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «فلما انتهت الخلافة إلى عمر عزل
خالداً وولَّى أبا عبيدة بن الجراح، وأمره أن يستشير خالداً؛ فجمع للأمة بين أمانة
أبي عبيدة وشجاعة خالد» [5].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «وهكذا أبو بكر خليفة
رسول الله صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه - ما زال يستعمل خالداً في حرب
أهل الردة، وفي فتوح العراق و الشام، وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل، وقد
ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى، فلم يعزله من أجلها بل عاتبه عليها؛ لرجحان
المصلحة على المفسدة في بقائه، وأن غيره لم يكن يقوم مقامه؛ لأن المتولي الكبير
- أي الخليفة - إذا كان خُلُقه يميل إلى اللين فينبغي أن يكون خُلُق نائبه يميل إلى
الشدة، وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين؛
ليعتدل الأمر؛ ولهذا كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يُؤثر استنابة خالد،
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يؤثر عزل خالد واستنابة أبي عبيدة بن
الجراح - رضي الله عنه -؛ لأن خالداً كان شديداً كعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة
كان ليناً كأبي بكر، وكان الأصلح لكل منهما أن يتولى من ولاه ليكون أمره معتدلاً»
[6].
ويؤيد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية أن عمر - رضي الله عنه - لما كان
يسعى إلى عزل خالد أيام أبي بكر - رضي الله عنه - كان يقول: «اعزله؛ فإن
في سيفه رهقاً، فقال أبو بكر: لا أشيم - أي لا أغمد - سيفاً سلَّه الله على الكفار»
[7].
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «والمقصود أنه لم يزل عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - يحرِّض الصديق ويذمِّره [**] على عزل خالد عن
الإمرة، ويقول: إن في سيفه لرهقاً؛ حتى بعث الصديق إلى خالد بن الوليد فقدم
عليه المدينة، وقد لبس درعه التي من حديد، وقد صدئ من كثرة الدماء .... »
إلخ [8].
ويشهد لشدة خالد أيضاً قتله للأسرى لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى
بني جذيمة؛ فقتل الأسرى الذين قالوا: صبأنا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا:
أسلمنا. فَوَدَاهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى رد إليهم ميلغة الكلب [9]، ورفع
يديه، وقال: «اللهم! إني أبرأ إليك مما صنع خالد» [10].
قال الخطابي - رحمه الله تعالى -: «الحكمة في تبرُّئه صلى الله عليه وسلم
من فعل خالد مع كونه لم يعاقبه على ذلك لكونه مجتهداً أن يعرف أنه لم يأذن له في
ذلك، خشية أن يعتقد أحد أنه كان بإذنه، ولينزجر غير خالد بعد ذلك عن مثل فعله»
ا هـ. ملخصاً.
¥