فلو كان عمر - رضي الله عنه - صاحب هوى، يقدّم هواه على مصلحة
الأمة؛ فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يزكيه، ويأمر الأمة باتباع سنته؟!
وهل يقره الله تعالى على هذه التزكية؟! فهذا مما يدل على بطلان هذه الروايات
التاريخية التي فيها نيل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وينبغي لكل مسلم قرأ قصة، أو اطلع على خبر لا يليق بالصحابة - رضي
الله عنهم - أن لا يقبله ويسلِّم به ابتداءً؛ بل يرجع إلى النصوص الثابتة في الكتاب
والسنة ويقضي بها على هذه الروايات التي غالباً ما تكون منقولة عن أهل البدع
والضلالات، أو في أسانيدها مجاهيل لا يُعرفون، أو مناكير لا يُقبَلون، أو كانت
بلا أسانيد. فمن سار على هذه الطريقة كان منهجه صواباً؛ لأنه قدَّم الثابت من
المنقول على غير الثابت.
ولا يلزم من هذا التأصيل الحكم بعصمة الصحابة - رضي الله عنهم -؛ بل
هم بشر يجتهدون فيصيبون ويخطئون، وهم أقرب إلى الصواب من غيرهم، ولا
سيما مَنْ كان من السابقين منهم إلى الإسلام. بيدَ أن تلك التهمة التي اتهم بها عمر
- رضي الله عنه - يلزم منها خيانة الأمة، وتقديم هوى النفس على المصلحة
العامة، وحرمان المسلمين من قائد ما نُكِّست له راية!! وهذا الاتهام غير مقبول في
الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
رابعاً: أن الروايات التاريخية المستفيضة تدل على أن خالداً - رضي الله
عنه - كان مجتهداً في أفعاله التي لم يرضها الصديق ولا الفاروق - رضي الله
عنهما -، كما تدل على اجتهاد عمر في عزله لتحقيق مصلحة أكبر من مصلحة
بقائه قائداً. وتدل أيضاً على دوام المحبة بينهما حتى بعد العزل، وهذه الروايات
تدحض كل ما ينقل مما فيه اتهام لعمر - رضي الله عنه - بالهوى.
ومن تلكم الروايات سوى ما ذكرته سابقاً ما يلي:
1 - أن عمر - رضي الله عنه - كان عازماً على تولية خالد - رضي الله
عنه - الخلافة من بعده، ومعلوم أن منصب الخلافة أعظم من مجرد قيادة الجيوش
في الشام؛ ولكن خالداً - رضي الله عنه - توفي قبل وفاة عمر - رضي الله عنه -؛
ودليل ذلك ما رواه الشاسي في مسنده عن أبي العجفاء السلمي قال: (قيل لعمر:
لو عهدتَ يا أمير المؤمنين! قال: لو أدركت أبا عبيدة ثم وليته ثم قدمت على ربي
فقال لي: لِمَ استخلفته؟ لقلت: سمعت عبدك وخليلك يقول: «لكل أمة أمين،
وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة» ولو أدركت خالد بن الوليد ثم وليته، فقدمت على
ربي لقلت: سمعت عبدك وخليلك يقول: «خالد سيف من سيوف الله سلَّه الله على
المشركين») [22].
2 - ما ذكره سيف بن عمر من أن عمر - رضي الله عنه - لما رأى زوال
ما كان يخشاه من افتتان الناس بخالد - رضي الله عنه -؛ عزم على أن يوليه بعد
أن يرجع من الحج، ولكن القدر سبق إلى خالد - رضي الله عنه - فتوفي قبل ذلك
[23].
3 - أن عمر أمر أبا عبيدة أن يستشير خالداً - رضي الله عنهم أجمعين -
في أمور الحرب حتى بعد عزله [24]؛ فلو كان في نفس عمر شيء على خالد -
رضي الله عنهما - لما جعله مستشاراً لأبي عبيدة - رضي الله عنه -.
4 - أن خالداً لما حضرته الوفاة أوصى لعمر - رضي الله عنهما -، وتولى
عمر وصيته [25]، وهذا يدل على المحبة بينهما؛ لأن الشخص لا يوصي إلا لمن
يحب ويثق في أمانته وحزمه وورعه، والوصي لا يقبل تولي وصية إلا من يحب؛
لأن في تنفيذها جهداً ومشقة.
5 - تزكية خالد لعمر عند أبي الدرداء - رضي الله عنهم - وإخباره بأن
عمر باب مغلق دون الفتن والمنكرات؛ فقد قال خالد لأبي الدرداء - رضي الله
عنهما -: «والله يا أبا الدرداء! لئن مات عمر لترين أموراً تنكرها» [26].
وفي المسند أن رجلاً قال لخالد - رضي الله عنه -: «يا أبا سليمان! اتق
الله؛ فإن الفتن قد ظهرت. فقال: وابن الخطاب حي؟ إنما تكون بعده» [27].
فلو كان خالد يعلم أن عمر إنما عزله لهوى في نفسه وليس لمصلحة رآها؛ فهل
كان سيزكيه هذه التزكية العظيمة؟!
6 - تأثر عمر بموت خالد - رضي الله عنهما - ورثاؤه له، ومدحه بما
يستحقه، ومن كان في نفسه شيء لا يفعل ذلك. روى ثعلبة بن أبي مالك: أن
خالداً لما مات، استرجع عمر مراراً ونكس، وأكثر الترحم عليه، وقال: «كان
¥