فلما نزل الناس منازلهم و اطمأنوا خرج علي و خرج طلحة و الزبير فتوافقوا و تكلموا فيما اختلفوا فيه، فلم يجدوا أمراً هو أمثل من الصلح، فافترقوا على ذلك، رجع علي إلى عسكره و رجع طلحة و الزبير إلى عسكرهما و أرسل طلحة و الزبير إلى رؤساء أصحابهما، و أرسل علي إلى رؤساء أصحابه ما عدا أولئك الذين حاصروا عثمان رضي الله عنه فبات الناس على نية الصلح و العافية، و هم لا يشكون في الصلح فكان بعضهم بحيال بعض، و بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون و لا ينوون إلا الصلح فباتوا بخير ليلة باتوها منذ مقتل عثمان، و بات الذين أثاروا الفتنة بشرّ ليلة باتوها قط، إذ أشرفوا على الهلاك و جعلوا يتشاورون ليلتهم كلها. انظر: تاريخ الطبري (4/ 506 - 507) من طريق سيف بن عمر.
فاجتمعوا على إنشاب الحرب في السر، فغدوا في الغلس و عليهم ظلمة و ما يشعر بهم جيرانهم، فوضعوا فيهم السيوف، فثار أهل البصرة و ثار كل قوم في وجوه الذين باغتوهم، فقام طلحة ينادي و هو على دابته - وقد غشيه الناس - فيقول: يا أيها الناس أتنصتون؟ فجعلوا يركبونه و لا ينصتونه، فما زاد أن قال: أف، أف، فراش نار و ذبان طمع. تاريخ خليفة (ص 182). وهل يكون فراش النار و ذبان الطمع غير أولئك السبئية؟!
التحم القتال من الغوغاء و خرج الأمر عن علي و طلحة و الزبير. و كان طلحة يقول – و السهام تناوشه -: اللهم خذ لعثمان مني اليوم حتى ترضى. تاريخ خليفة (ص 185)، دول الإسلام للذهبي (1/ 28).
و يصور لنا الحسن بن علي حال والده فيقول: لقد رأيته حين اشتد القتال يلوذ بي و يقول: يا حسن لوددت أني مت قبل هذا بعشرين حجة - أو سنة -، فقال له الحسن: يا أبت قد كنت أنهاك عن هذا، قال: يا بني لم أر الأمر يبلغ هذا. مصنف ابن أبي شيبة (15/ 288) بإسناد صحيح، و السنة لعبد الله بن أحمد (2/ 566، 589).
و روى ابن أبي شيبة في مصنفه (15/ 275). بإسناده إلى حبيب بن أبي ثابت أن علياً قال يوم الجمل: اللهم ليس هذا أردت، اللهم ليس هذا أردت.
أما الروايات التي جاءت تفيد بأن طلحة رضي الله عنه قام بتحريض الناس على القتال ثم إصابته و موته، هي روايات مردودة بما ثبت من عدالة الصحابة رضوان الله عليهم، وقام طلحة و رجع خلف الجيش، فجاءه سهم غرب لا يعرف من أين أتى فنزل في المفصل من ركبته فصادف جرحاً في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ ينزف فحمله غلامه إلى البصرة و ألجأه إلى دار خربة لا أحد فيها و مات هناك رضي الله عنه. تاريخ الطبري (4/ 512، 514) من طريق سيف بن عمر.
و قيل أن الذي ضربه بالسهم مروان بن الحكم، لكن ليس هناك دليل على هذا، و بدراسة تلك الروايات، اتضح براءة مروان بن الحكم من تلك التهمة، و ذلك للأسباب التالية:-
أ- وجود رواية لمروان بن الحكم في صحيح البخاري، مع ما عرف من البخاري رحمه الله من الدقة و شدة التحري في أمر من تقبل روايته، فلو صح قيام مروان بقتل طلحة رضي الله عنه لكان هذا سبباً كافياً لرد روايته و القدح في عدالته. و الرواية في صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (3/ 493).
ب- استبعاد ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (7/ 248) لهذا الأمر و تشكيكه فيه بقوله: و يقال إن الذي رماه بهذا السهم مروان بن الحكم. و قد قيل: إن الذي رماه بهذا السهم غيره، و هذا عندي أقرب، و إن كان الأول مشهوراً، والله أعلم.
جـ- ثناء الأئمة عليه كالإمام أحمد، و الحافظ ابن حجر. سير أعلام النبلاء للذهبي (3/ 477) و الإصابة لابن حجر (6/ 257 - 259).
د- بطلان السبب الذي قيل إن مروان قتل طلحة رضي الله عنه من أجله، و هو اتهام مروان لطلحة بأنه أعان على قتل عثمان رضي الله عنه. و هذا السبب المزعوم غير صحيح حيث إنه لم يثبت من طريق صحيح أن أحداً من الصحابة قد أعان على قتل عثمان رضي الله عنه.
هـ - كون مروان و طلحة رضي الله عنهما، في صف واحد يوم الجمل، و هو صف المنادين بالإصلاح بين الناس.
¥