عاد "يوسف بن تاشفين" بجيوشه للأندلس في شهر ربيع الأول سنة 481 هجرية وأرسل إلى ملوك الطوائف يطلب منهم الاستعداد للجهاد، وكان الهدف تطهير منطقة شرق الأندلس من التهديدات الصليبية، ولكن اختلف أمراء الطوائف فيما بينهم وكثرت شكاواهم من بعضهم البعض، بل وصل الأمر أن تعاون بعضهم في السر مع "ألفونسو السادس"؛ من أجل إفشال هذه الحملة المباركة، وهذه الأمور أغضبت أمير المرابطين "يوسف بن تاشفين" الذي ساءه ضعف الوازع الديني لدى هؤلاء الأمراء الذين يفترض فيهم أن يكونوا أغيّر الناس على المسلمين وحرماتهم، وقرر "يوسف بن تاشفين" العودة إلى بلاد المغرب ولكنه كان يضمر شيئاً آخر.
أعظم أعمال البطل:
عاد "يوسف بن تاشفين" إلى المغرب سنة 482 هجرية، وقد اطلع أكثر فأكثر على أحوال الأندلس وأمرائها، ومن خلال النظرة الثاقبة للبطل المحنك الذي جاوز الثمانين، قرر "يوسف بن تاشفين" القيام بأعظم أعماله على الإطلاق وهو إسقاط دولة ملوك الطوائف الهزيلة وتوحيد الأندلس تحت راية واحدة قوية تماماً مثلما فعل من قبل ببلاد المغرب الممزقة.
ولكن ما هي البواعث التي حملت "يوسف بن تاشفين" على اتخاذ هذا القرار الكبير الخطير؟
(الباعث الأول والأهم): الحفاظ على دولة الإسلام في الأندلس وإنقاذها من المحو والضياع، فلقد تأثر "يوسف بن تاشفين" منذ البداية بما شهده من اختلال أمراء الطوائف وضعف عقيدتهم، وانهماكهم في الترف والفسق، ورتعهم في الشهوات، وما يقتضيه ذلك من إرهاق شعوبهم بالمغارم الجائرة، وأدرك "يوسف" أن هذه الحياة الماجنة والعابثة التي انغمس فيها رؤساء الأندلس قد أثرت على شعوبهم فاقتدوا بهم وعمت الميوعة والترف حياة سائر الأندلسيين، وأن هذا الترف والنعومة هي التي قوضت منعتهم، وفتت في رجولتهم وعزائمهم وقعدت بهم عن متابعة الجهاد ومدافعة العدو المتربص بهم على الدوام، وأن الشقاق الذي استحكم بينهم ولم ينقطع حتى بعد الزلاقة، سوف يقضى عليهم جميعاً، وإذا تركت الأمور في مجراها فلسوف يستولي الصليبيون على الأندلس كلها ويعيدونها نصرانية مرة أخرى.
(الباعث الثاني): وهو إستراتيجي تكتيكي يكشف عن عقلية عسكرية متقدمة وفائقة عند أمير المرابطين "يوسف بن تاشفين"، وهو في حالة سقوط الأندلس فسوف تمتد الأطماع الصليبية لعُدْوَة المغرب، والأندلس بالنسبة للمغرب بعداً إستراتيجياً دفاعياً في غاية الأهمية، وهذه فطنة غابت عن حكام المسلمين اليوم، وهم يتركون مكرهين أو راضين بلاد العراق وأفغانستان تسقط لقمة سائغة بيد الصليبيين، وقد كشفت الأيام عن خطورة هذا الترك، فها هي أمريكا تتهدد سوريا وتعد مشروعاً كبيراً لاحتلالها والبقية تأتي، فيا ليتنا نقرأ التاريخ لنستفيد من تجارب السابقين.
وفى أوائل سنة 483 هجرية بدأ البطل العجوز في أعظم أعماله وإنجازاته:
توحيد الأندلس وإزاحة دولة الطوائف الذليلة الخانعة
فهل يدري المسلمون ما فعله أمراء الطوائف؟
ما فعلوه يؤكد على صدق توقع "يوسف بن تاشفين" وصدق عمله وأهمية وضرورة ما سيقدم عليه، لقد قام أمراء الطوائف بالتعاون والاتفاق مع زعيم الصليبيين "ألفونسو السادس" على حرب المرابطين، إخوانهم المسلمين، وذلك نظير أموال طائلة وبلاد ومدن وحصون يؤدونها إلى هذا العدو الصليبي، فهل يصلح هؤلاء الطغاة للبقاء، ولقد استفتى "يوسف بن تاشفين" علماء زمانه أمثال الغزالي والطرطوشي وغيرهم فيما هو سيقدم عليه، فأجاب الجميع بوجوب قيامه بإزاحة ملوك الطوائف، بل إن علماء الأندلس وفقهاءها كتبوا بنفس المعنى ليوسف بن تاشفين.
وظل أمير المجاهدين يعمل على إزاحة ملوك الطوائف وإعادة الأندلس دولة واحدة من سنة 483 حتى سنة 495 هجرية تقريباً أي اثنتي عشرة سنة متواصلة من العمل الدءوب لاستئصال هذا الورم السرطاني من جسد الأمة حتى تم له ذلك، واستقبلت الأندلس عهداً جديداً من القوة والوحدة، وانقمع الصليبيون حيناً من الدهر.
ولم يؤثر المجاهد الكبير، الذي أصبح على مشارف المائة، أن ينهي حياته بلا جولة جديدة مع كبير صليبي إسبانيا "ألفونسو"، وأراد أن يفتح مدينة "طليطلة" العريقة، فالتقى معه في معركة قوية سنة 491 هجرية وهزمه هزيمة فادحة، حطم بها قواه لفترة طويلة، ولكنه لم يفتح "طليطلة" للأسف الشديد، ثم آثر أن يولي ابنه وولي عهده من بعده الأمير "علي" إمارة الأندلس للتأكد من سلامة الأوضاع فيها.
رحيل البطل:
وفى 1 محرم سنة 500 هجرية أي وهو في المائة من العمر، قرناً كاملاً من الزمان، رحل البطل، وترجّل الفارس الشجاع، وموحد الأمة بعد أن أتم أمير المرابطين عمله الذي عاش وجاهد من أجله، ووحد بلاد المغرب والأندلس تحت راية واحدة، وأعاد الإسلام الصحيح بربوع المغرب، وأزال الظلمة والطواغيت والمتسلطين على رقاب العباد، وصد الصليبيين عن مسلمي الأندلس، وأوقف حرب الاسترداد الإسبانية فترة من الزمان، ورفع شأن المسلمين بالمغرب في الوقت الذي كانت أمة الإسلام بالمشرق تعانى من الضعف ومن التفرق، وقد سقط بيت المقدس بيد الصليبيين، ولو قُدّر أن يكون "يوسف بن تاشفين" بأرض المشرق لتغيرت مسيرة الحملات الصليبية تماماً.
ولربما تغيّرت الأمور كلها هناك لما يحمله هذا الرجل من مشروع كامل وقوي لوحدة المسلمين وإقامة الدولة الإسلامية على أساس الكتاب والسنة.
فرحمة الله الواسعة على هذا البطل المنقذ الذي حفظ الله عز وجل به أمة الإسلام في جزء كبير من أرضها وتاريخها.
المراجع والمصادر:
نفح الطيب / الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى
تاريخ ابن خلدون / روض القرطاس / الحلل الموشية
المعجب في تلخيص أخبار المغرب / دولة الإسلام في الأندلس
البيان المغرب / الكامل في التاريخ / الروض المعطار
أعمال الأعلام / سير أعلام النبلاء / وفيات الأعيان
شذرات الذهب / أيام الإسل