رابعاً: تمحيص الصَّحيحِ من الأخبار فيما يتعلَّقُ بالعقيدةِ والشَّريعةِ:
النَّاسُ في اشتراطِ تمييز الصَّحيحِ من الضَّعيفِ في رُواياتِ السِّيرة على قولينِ مشهورينِ:
الأول: مَنْ لم يشترط التمحيصَ وأجاز إيرادَ كلِّ مروياتِ السِّيرة، واحتجَّ بأنَّ كَتَبَة السِّيرة لم يعتمدوه ولم يحرصُوا عليه. واستدلُّوا بما اشتُهِر عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال: (ثلاثةُ كتبٍ ليس لها أصولٌ: المغازي، والملاحم، والتفسير) 10. ويمكن نقاش دليلهم
واستدلالُهم من أوجهٍ11:
أ- أنَّ ثبوتَ هذه المقولةِ عن الإمام أحمد موضعُ نظرٍ12، ومَن ذا الذي يقول: إنه لا يثبتُ شيءٌ في مغازي المسلمين؟ فأينَ ما في الصِّحاحِ والسُّنن، وأينَ ما ذكره الإمامُ أحمدُ نفسُه في مسندِهِ؟
ب - وفي حالِ ثبوت الرِّواية فإنَّهُ لم يقلْ: لم يَصِحَّ فيها شيءٌ، ولكن قالَ: ليس لها أصولٌ. وقوله: ثلاثة كُتُبٍ يدل على أنَّ مرادَهُ: (كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها، ولا موثوق بصحتها؛ لسوء أحوال مُصنفيها، وعدم عدالةِ ناقليها، وزيادات القُصَّاص فيها) 13.
ج - أنه حتَّى لو نَفَى الصِّحَّة عنها فإنَّ نفيَها لا ينفي الحُسْن، ولا يستلزمُ الضَّعفَ أو الوضعَ.
د - يحملُ قولُهُ على الحال الغالب؛ فإنَّ هذه الفنونَ غالبُ رواياتِها ليس لها أسانيدُ متصلةٌ14.
أما القول الثاني: فيُمثله د. أكرم العمري؛ حيثُ يقولُ: (المطلوبُ اعتمادُ الرِّواياتِ الصَّحيحةِ وتقديمها، ثم الحَسَنةُ، ثم ما يُعتضد من الضَّعيفِ لبناء الصُّورة التَّاريخيةِ لأحداث المجتمعِ الإسلاميِّ في عصرِ صدرِ الإسلامِ ... وعند التعارضِ يُقدَّمُ الأقوى دائِماً .. أمَّا الرِّواياتُ الضَّعيفةُ التي لا تقوى أو تُعتضد فيُمكن الإفادةُ منها في إكمالِ الفراغ الذي لا تسدُّهُ الرِّواياتُ الصحيحةُ والحسنةُ على ألا تتعلق بجانبٍ عقديٍّ أو شرعيٍّ؛ لأنَّ القاعدةَ: (التشدد فيما يتعلَّقُ بالعقيدة أو الشريعة) 15. ولا يخفى أنَّ عصرَ السِّيرة النَّبَويَّة والخلافة الراشدة مليءٌ بالسَّوابقِ الفقهية، والخلفاء الراشدون كانوا يجتهدون في تسيير دفة الحياة وفق تعاليم الإسلام؛ فَهُمْ موضع اقتداءٍ ومُتابعةٍ فيما استنبطُوا من أحكامٍ ونُظُمٍ لأقضيةٍ استجدتْ بعد توسع الدولةِ الإسلاميةِ على إثر الفتوحِ.
أما الرِّواياتُ التَّاريخيةُ المتعلقةُ بالعمران: كتخطيطِ المدن، وزيادة الأبنية، وشق الترع .. أو المتعلقة بوصف ميادين القتال وأخبار المجاهدين الدالة على شجاعتهم وتضحيتهم فلا بأسَ من التساهلِ فيها) 16.
وهذا هو المنهجُ المعتبرُ عند الأئمةِ المحققين، يشهد به صنيعُ الذَّهبيّ في (تاريخ الإسلام)، وابنِ سيدِ النَّاسِ في (عُيون الأثر) 17، وابنِ حَجَرٍ في (الفتح) 18، وكذلك ابن القيم وابن كثير.
أمَّا ما يُؤخذ من الرِّواياتِ التَّاريخية فهو ما اتفقَ عليه الإخباريون 19.أمَّا اشتراطُ الصِّحَّة في كلِّ خبرٍ تاريخيٍّ والذي مشى عليه بعضُ المُؤلِّفين في السِّيرة فاختزلوا كثيراً من أحداثِها فإنَّ ذلك يترتبُ عليه تضييع ثروة علمية كبرى، وإهدار الاستفادة منها في مجالاتٍ تربويةٍ وإداريةٍ .. ونحوها؛ حيث تضعفُ الثِّقةُ في كلِّ ما استُنبط منه20.
يبقى: كيف تدوّن السِّيرة على ضوء المنهج السابق: هل تذكر كل الأحاديث بنصوصها أم يجمع بين الروايات في سياق واحد؟ الظاهر: هو الطريق الثاني؛ تحاشياً لتشوش القارئ، وتشتت ذهنه بانقطاع الأحداث، وتكرر بعضها، وعدم وضوح صورة متسلسلة متكاملة للسيرة، ثم إنه صنيع الزهري في روايته لحادثة الإفك التي رواها مسلم عنه 21.
خامساً: معرفةُ حدودِ العقلِ في قبولِ النُّصوصِ وردها:
يرى العديدُ من الدَّارسين وخاصة من المستشرقين أنَّ عُلماء المسلمين أهملوا نقدَ المتون، وأنَّ ذلك لغياب عقليتهم النقدية. وهذا مردود، وهذه بعض أمثلة لمحاكمات تاريخية مستندة إلى نقد المتن:
1 - رفض ابنُ حزم العددَ المذكور عن عدد جند المسلمين في أُحُدٍ؛ بناءً على محاكمة المتن وفق أقيسةٍ عقليةٍ بحتةٍ.
¥