من أُسسِ الكتابة في السِّيرة ودراستها توفرُ المحبةِ الصادقةِ لصاحبِها -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- والعاطفة الحية التي تُشعِرُ بمدى الارتباطِ الحقيقيِّ قَلْباً وقَالباً، والتفاعل الحقيقي مع أحداث سيرته29.
ولقد عبَّر الشيخُ محمد الغزالي عن عاطفتِهِ الجيَّاشة, فقالَ في مُقَدِّمَة "فقه السِّيرة" 30: (إنني أكتبُ في السِّيرة كما يكتبُ جنديٌّ عن قائدِهِ، أو تابعٌ عن سيدِهِ، أو تلميذٌ عن أستاذِهِ، ولستُ- كما قلتُ- مُؤرِّخاً مُحايداً مبتوتَ الصِّلةِ بمن يكتبُ عنه).
ودِراسةُ السِّيرة تعبُّداً للهِ وتقرباً إليه تُنمِّي ذلكَ الحُبَّ، وتسقي تلك العاطفةَ.
تاسعاً: الوفاء بحقوق المصطفى -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- دون غُلوٍّ ولا جفاء:
ينأى عن سنةِ النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- ومنهج سَلَفِ الأمةِ في دراسة السِّيرة فريقان 31:
1 - قومٌ قصَّرُوا في حقِّ النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- وما يجبُ له من الإجلالِ والتَّوقيرِ والتعظيمِ، فدرسوا سيرتَهُ كما يدرسون سائرَ الشَّخصياتِ الأُخرى، فنظرُوا لجوانبِ العظمةِ البشريةِ والقيادةِ والعبقريةِ والبُطولةِ والملك والإصلاحِ الاجتماعيِّ، مُغفلينَ الجانبَ الأعلى في حياتِهِ، وهو تشرفه بوحي اللهِ- عَزَّ وجَلَّ- وختم النبوةِ والرِّسالةِ. ولهؤلاء يحسنُ سياقُ خبرِ أبي سُفيان يومَ فتحِ مكَّةَ؛ حيثُ قالَ للعبَّاسِ لمَّا رأى كتائبَ الصَّحابة -رضي الله عنهم-: واللهِ, لقد أصبحَ مُلكُ ابنِ أخيكَ اليومَ لعظيماً، فقال العبَّاسُ: ويحك يا أبا سفيان، إنَّها النُّبوةُ، قال: فنعم إذ32.
2 - وآخرون بالغُوا في التعظيمِ وغلوا في منزلةِ الرَّسُول- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، فلم يَرُقْ لهم وصفُهُ بالبشريةِ، بلْ رُبَّما خَطَرَ لبعضِهم أنَّهُ ضَرْبٌ من الجفاءِ! مع أنَّ كونَهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- بَشَراً عبداً لله -عَزَّ و جَلَّ- من مُسلَّماتِ العقيدةِ، وخِلافُهُ ضَرْبٌ من الضَّلالِ؛ فقدْ قالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-: (لا تُطروني كما أطرتِ النَّصارى ابنَ مريمَ؛ فإنَّما أنا عبدٌ، فقُولُوا: عبدُ اللهِ ورسولُهُ) 33.
فالحقُّ وَسَطٌ بينَ الطَّرفينِ؛ ولدراسةِ السِّيرة انطلاقاً من ذلك أثرٌ كبيرٌ في العقيدةِ والعبادةِ والسُّلوكِ والدَّعوةِ والتَّأسِّي والاقتداء.
عاشراً: تحديد هدف الكتابة والشريحة المخاطبة بها:
على كاتب السِّيرة معرفةُ الشَّريحةِ المرادِ مخاطبتُها، وفهمُ الأسلوبِ المناسبِ الذي تُؤدَّى به. وعليه كذلكَ أنْ يُعيِّنَ غرضَهُ من الكتابةِ، وماذا يُريد مِن: معالجةٍ جديدةٍ، أو طرحٍ للأحداثِ بأسلوبٍ جديدٍ، أو تعليلٍ لقضايا منغلقةٍ، أو تركيزٍ على أحداثٍ أغفلَها الكُتَّابُ 34.
فمثلاً المرحلةُ المكيةُ مرحلةٌ تربويةٌ خَصبةٌ كُتبتْ فيها كثيرٌ من الكتاباتِ، ولا تزالُ بحاجةٍ إلى بسطٍ في بعضِ جوانبِها وزواياها، ومِنْ ذلكَ:
1 - موقفُ الجاهليةِ من الدَّعوةِ والمؤمنين بها؛ فأعداء الدَّعوةِ ليسُوا قريشاً وحدَهُم، بل كل الجاهلية .. ثقيف وهوازن وغيرهما. وإنَّما برزتْ قريشٌ؛ لأنهم عشيرته -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-الأقربون، ولكن تخصيصُهم بالحديثِ يوحي بمحليةِ الدَّعوةِ، وهو خطأٌ جَسِيمٌ.
2 - موقفُ المؤمنينَ مِن الاضطهادِ، بالمقارنةِ بينَ حالهِم قبلَ الإسلامِ وبعده، وكيفَ صنعُهم الإسلامِ حتَّى هانَ على المؤمنينَ من العُقُوباتِ ما كان أخفه هو غايةُ التهديدِ في الجاهليةِ كالطَّردِ من القبيلةِ مثلاً.
3 - الدَّورُ التَّربويُّ العظيم لدارِ الأرقمِ مدرسة المؤمنين السابقين الأولين، والمؤسف أن الأخبار عنها قليلة، مع أنها تميزت بإعطاء منهجٍ تربويٍّ متكاملٍ 35. ولعلَّ من الكتب المفيدة في دراسةِ المرحلةِ المكيةِ: في ظِلال القُرآن، لسيد قطب -رحمه الله- 36.
حادي عشر: العناية بتحليل الأحداث والتعليق والموازنة:
بذل العلماءُ المتقدِّمُون جُهُوداً مُضنيةً في حفظِ العلمِ وروايتِهِ أشغلتهم في بعضِ الأحيانِ عن العنايةِ بتحليلِ الأخبارِ ودراستِها والنَّظرِ في أسبابِ الأحداثِ ومُلابساتِها.
¥