مطلوبٌ اليوم أكثرُ مِن أيِّ وقتٍ مَضَى قراءةُ السِّيرة ودراستُها دراسةً استراتيجيةً في مختلفِ الحالاتِ الاجتماعيةِ والتربويةِ والعلميةِ والإداريةِ والسِّياسيةِ والاقتصاديةِ والحركيةِ والأمنيةِ والثقافيةِ .. ففي السِّيرة بيانٌ لجميعِ الحالاتِ أو أصولِها؛ خِلافاً لصنيعِ بعضِ كُتَّابِ السِّيرة حين يُصورون حياةَ النَّبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ على أنها صراع وحروب وغزوات وسرايا، ويغفلون عن الجوانب الأخرى42.
لكن المطلوب: دقة تحليل الواقع المعاش من خلال مُتخصصين، لا مُتحمِّسين فقط، ثم دراسة السِّيرة وتحليلها، ثم تحديد مواقع الاقتداء من مسيرة السِّيرة، أو اكتشاف المرحلة من السِّيرة التي تمثل حالة الاقتداء وكيفيته من خلال ظروف الحال نفسه 43.
ثالث عشر: تحديد هدف الدراسة وهو الاقتداء والتأسِّي:
من العبثِ اعتبارُ سيرةِ النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، لمجرَّدِ التَّسليةِ وإبراز عظمةِ الرِّجال؛ بل إنَّ سيرتَهُ هدايةٌ للنَّاسِ، وترجمةٌ عمليةٌ لدِّين الله -عَزَّ و جَلَّ- وتصور للإسلامِ يتجسدُ في حياةِ صاحبِ الرِّسالةِ، تطبيقاً للمبادئِ والقواعدِ والأحكامِ النظريةِ 44. ولذا قالَ الزُّهريُّ: (في عِلْمِ المغازي عِلْمُ الآخرةِ والأُولى) 45. و لمَّا وعى الصَّحابة وسلفُ الأمةِ هذا الغرضَ اكتسبتِ السِّيرة في حياتِهم مكانةً عِلْميةً تليقُ بها وبهم. قال عليُّ بنُ الحُسين: (كنَّا نتعلَّمُ مغازيَ رسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- كَمَا نتعلَّمُ السُّورةَ مِن القُرآنِ) 46؛ لأنه لا غِنى لمن يُريدُ الاقتداءَ به عن معرفةِ سيرتِهِ. والاقتداءُ أساسُ الاهتداءِ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً?الأحزاب: 2147.
ولكن كيف نتعاملُ مع السِّيرة في هذه المرحلةِ الُمتغيِّرةِ، وكيف يكونُ الاقتداءُ؟ الواقعُ يتغيَّرُ، ووسائلنا في العمل والاقتداء وقراءة القيم لا تتغير، والسِّيرة اتخذتْ لكلِّ حالةٍ ما يُناسبها، كما قالَ النَّبيّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- لعمَّارِ بنِ ياسرٍ حينَ أكرهه المشركون على سبِّ النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- وذكر آلهتِهم بخيرٍ: (إنْ عادُوا فَعُدْ) 48
آية التأسي نزلت في غزوة الأحزاب لتبين أنَّ تمام الاقتداءِ إنَّما يكونُ في شدةِ البأسِ والضِّيقِ وفَوَاتِ الدُّنيا لمن تعلَّق بالآخرة، فلا يكون الاقتداءُ في اليُسرِ دُونَ العُسرِ، ولا في الحاجياتِ والتحسينياتِ دُونَ الضروريات من مقاصدِ الشَّريعةِ، وليس المقصودُ التقليلَ من شأنِ الاقتداءِ في العاداتِ؛ فذلك مُهمٌّ في صياغةِ الشَّخصيةِ المتكاملةِ.
نزلت آيةُ الأحزابِ وقد بلغتِ القلوبُ الحناجرَ، وحين استنجدَ الصَّحابة بالرَّسُول- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- عندما واجهتهم الصخرةُ الكبيرةُ, حاول تفتيتَها بالمِعولِ طبقاً للسُّننِ الجاريةِ مُؤمِّلاً النَّصرَ 49. (فقيمة الاقتداء وعطاؤه وعظيم ثوابه عندما يكون في العزائم والقضايا الكبيرة التي قد يمتحن صاحبها في صدق إيمانه وقوة يقينه، فتفوته بعض النتائج في الدنيا، ويخسر المعركة، لكن الاقتداء يحميه ويحول بينه وبين السقوط، ويرتفع به من الوقوف عند النتائج القريبة إلى إبصار العواقب والمآلات .. ذلك أن مظنة الارتكاز في الاقتداء هي رجاء الله واليوم الآخر واستمرار الذكر الذي يجلِّي هذه الحقيقة، ويؤكد حضورها واستمرارها: ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ? الأحزاب: 21) 50.
ولكل مخلص أن يتساءل: ما نصيبُ السِّيرة النَّبَويَّة في المناهجِ التَّربويةِ اليومَ؟ وما أثرُ معرفتِها في سُلُوكِ العاملينَ في ميادينِ الدَّعوةِ والتَّربيةِ والتَّعليمِ؟
رابع عشر: معرفة مواضع الاقتداء من فعله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
معرفة أحوال أفعاله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأقسامها مبحث أصولي يهم دارس السِّيرة.
¥