تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ذكر المؤرخون (22) أن الدنيا لما انفتحت على المسلمين آنذاك، ووسع عليهم عثمان بعد أن زهدَّهم عمر رضي الله عنهما؛ اتخذوا الضياع، ومالوا إلى الجاه والمال؛ فاستطالوا عمر عثمان، وسعوا في الفتنة وهم لا يعلمون عواقبها، فما سلمت لهم الدنيا التي أثاروا الفتنة من أجلها، وأضروا بدينهم ضرراً كبيراً، يلقون الله تعالى يوم لقائه بدم خليفة راشد، زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه، وبشره بالجنة، وشهد له بها، وزكاه أعظم تزكية فقال عليه الصلاة والسلام: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم" (23).

وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حين حذر أمته من الدنيا، واستشرافها، ومحبتها، والخضوع لها، وخافها أشد الخوف فقال عليه الصلاة والسلام: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم" وفي رواية: "وتلهيكم كما ألهتهم" رواه الشيخان (24).

فمن أعظم الفتن التي تفتح أبواب فتن كثيرة: الفتنة بالدنيا وزهرتها، وليس شيئاً مفسداً لقلوب العباد كالفتنة بها؛ فمن فُتِنَ بها بدّل كلام الله تعالى، وحرَّف الكلم عن مواضعه، ولم يتورع عن فعل أي شيء؛ حتى إنه ليسفك الدماء المحرمة، وينتهب الأموال المحترمة، وينتهك الأعراض المصونة، بتأويلات خاطئة. وحب الدنيا رأس كل خطيئة (25)؛ لأنه سبب للهوى، والهوى لا ضابط له، ولا قيد يقيده، فصاحبه يستحل محارم الله تعالى، ويرفض شريعته؛ لأنها تخالف هواه؛ ولذلك سمى الله تعالى الهوى إلهاً يعبد من دونه فقال سبحانه: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على" علم وختم على" سمعه وقلبه وجعل على" بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون صلى الله عليه وسلم لله 23 صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم الجاثية: 23}.

وقد يظن كثير من الناس: أن سعة الدنيا خير لهم من ضيقها؛ ولذلك يسألون الله تعالى سعة الرزق، وليس الأمر كما يظنون؛ فكم من عبدٍ حماه الله تعالى الدنيا فكان ذلك خيراً له، كما في حديث قتادة بن النعمان رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء" (26). وكم من عبد بسط له منها ما بسط ففتن بها، فكان هلاكه بسبب ذلك.

ومن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أخبر أن انفتاح الدنيا سيكون سبباً لفتنة المسلمين واقتتالهم فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال عبدالرحمن ابن عوف: نقول كما أمرنا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك؟ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، أو نحو ذلك، ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض" رواه مسلم (27).

والسلامة من الدنيا خير من زهرتها واتساعها، وأوزارها وفتنتها، وما ينتج عنها من التنافس والتقاطع الذي يؤدي إلى الفرقة والتقاتل، فقد روى علي رضي الله عنه فقال:"إنا لجلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ طلع مصعب بن عمير ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو،فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى للذي كان فيه من النعمة والذي هو اليوم فيه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة وراح في حلةٍ؟ ووضعت بين يديه صحفة ورفعت أخرى؟ وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟ قالوا: يا رسول الله، نحن يومئذ خير منا اليوم، نتفرغ للعبادة، ونكفى المؤنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأنتم اليوم خير منكم يومئذ" رواه الترمذي وقال: حديث حسن (28)، فهذه النصوص وأمثالها تدل على أن بسط الدنيا على الناس يكون سبباً في فتنتهم بها، واختلافهم عليها، وتكون نتيجة ذلك البغي والعدوان والظلم والأثرة، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة، التي هي من أسباب الفتن والمحن، وصدق الله العظيم إذ يقول: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير صلى الله عليه وسلم الشورى: 27}.

الهوامش:

(1) أخرجه الطبري في تاريخه (2 - 680) وابن عساكر في تاريخه (39 - 228).

(2) الكامل لابن الأثير (3 - 70).

(3) أخرجه اللالكائي في السنة (2550) وابن عساكر (35 - 292) وذكره الذهبي في السير (1 - 87).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير