أما ما لفقوه بيزيد من أن له يداً في قتل الحسين، و أنهم فسروا كلامه لعبيد الله بن زياد بأن يمنع الحسين من دخول الكوفة و أن يأتيه به، يعني اقتله و ائتني برأسه، فهذا لم يقل به أحد و إنما هو من تلبيس الشيطان على الناس و إتباعهم للهوى و التصديق بكل ما يرويه الرافضة من روايات باطلة تقدح في يزيد و معاوية، و أن أهل العراق و الأعراب هم الذين خذلوا الحسين و قتلوه رضي الله عنه كما قال بذلك العلماء.
و يشهد لذلك ما رواه البخاري عن شعبة عن محمد بن أبي يعقوب سمعت عبد الرحمن بن أبي نعيم: أن رجلاً من أهل العراق سأل ابن عمر عن دم البعوض يصيب الثوب؟ فقال ابن عمر: انظر إلى هذا يسأل عن دم البعوض و قد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحسن و الحسين هما ريحانتاي من الدنيا. الفتح (10/ 440) و صحيح سنن الترمذي (3/ 224).
أما قول الإمام الذهبي في سيره عن يزيد بأنه ممن لا نسبه ولا نحبه و أنه كان ناصبياً فظاً غليظاً جلفاً متناول المسكر و يفعل المنكر. سير أعلام النبلاء (4/ 36).
قلت: إن الإنصاف العظيم الذي يتمتع به الذهبي رحمه الله جعله لا يكتفي بسرد تاريخ المترجم له دون التعليق - غالباً - على ما يراه ضرورياً لإنصافه؛ و ذلك نحو الحكم على حكاية ألصقت به و هي غاضّة من شأنه، أو ذكر مبرر لعمل ظنه الناس شيئاً و هو يحتمل أوجهاً أخرى، أو نقد لتصرفاته نقداً شرعياً، ثم يحاول أن يخرج بحكم عام على المترجم له مقروناً بالإنصاف.
و هذا العمل _ أي الإنصاف في الحكم على الأشخاص _ يعطي ضوءاً كاشفاً تستطيع أن تستفيد منه الصحوة المباركة، فهي صحوة توشك أن تعطي ثمارها لولا ما يكدرها من تصرفات بعض ذوي النظرات القاتمة الذين يرمون العلماء و الدعاة بالفسق و الابتداع و الميل عن مذهب السلف لأي زلة، لا يعذرون أحداً، و لا يتقون الله في ظنٍّ مرجوح.
و هناك بعض آخر لا يستطيع العيش إلا بالطعن على المخالف، و نسيان محاسنه و كتمانها، فهؤلاء و أمثالهم تكفل الإمام الذهبي بالرد عليهم في سفره العظيم سير أعلام النبلاء.
و قلت أيضاً: هذا قول و كلٌ يؤخذ من كلامه و يرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و أما عن تناوله المسكر و غيرها من الأمور قلت: هذا لا يصح كما أسلفت و بينت رأي ابن الحنفية في ذلك - و هذه شهادة ممن قاتل معاوية مع أبيه، فأحرى به أن يكون عدواً له كارهاً لملكه و ولده -.
و قلت أيضاً: إن هذا لا يحل إلا بشاهدين، فمن شهد بذلك؟ وقد شهد العدل بعدالته، روى يحيى بن بكير عن الليث بن سعد (ت 147هـ) قال الليث: توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا، فسماه الليث أمير المؤمنين بعد ذهاب ملكهم و انقراض دولتهم، ولولا كونه عنده كذلك ما قال: إلا توفي يزيد. العواصم من القواصم (ص232 - 234).
و هذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله على تقشفه و عظم منزلته في الدين و ورعه قد أدخل عن يزيد بن معاوية في كتابه الزهد أنه كان يقول في خطبته: إذا مرض أحدكم مرضاً فأشقى ثم تماثل، فلينظر إلى أفضل عمل عنده فليلزمه و لينظر إلى أسوأ عمل عنده فليدعه. أنظر: العواصم من القواصم (ص245).
و هذا لا يتعارض مع ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية نقلاً عن الإمام أحمد عندما سُئل أتكتب الحديث عن يزيد، قال: لا، و لا كرامة، أوَ ليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل. سؤال في يزيد (ص27).
و كان رفض الإمام أحمد رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ليس دليلاً على فسقه، و ليس كل مجروح في رواية الحديث لا تقبل أقواله، فهناك عشرات من القضاة والفقهاء ردت أحاديثهم و هم حجة في باب الفقه. في أصول تاريخ العرب الإسلامي، محمد محمد حسن شرّاب (ص 152).
و هذا يدل على عظم منزلته – أي يزيد بن معاوية - عنده حتى يدخله في جملة الزهاد من الصحابة و التابعين الذين يقتدى بقولهم و يرعوى من وعظهم، و ما أدخله إلا في جملة الصحابة قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين، فأين هذا من ذكر المؤرخين له في الخمر و أنواع الفجور، ألا يستحيون؟! و إذا سلبهم الله المروءة و الحياء، ألا ترعوون أنتم و تزدجرون و تقتدون بفضلاء الأمة، و ترفضون الملحدة و المجّان من المنتمين إلى الملة. العواصم من القواصم (ص246).
و قد أنصف أهل العلم و العقل و السنة و الجماعة على أن يزيد كان ملكاً من الملوك المسلمين له حسنات و له سيئات و لم يكن صحابياً و لم يكن كافراً.
و المؤمن الحق يعرف جيداً أن الله تعالى غير سائله عما حصل بين علي و معاوية أو بين يزيد والحسين أو الذين جاءوا من بعدهم إنما العبد يسئل عما قدم لنفسه.
و أخيراً فالعبد التقي الخفي لا ينشغل بذنوب العباد و ينسى نفسه كما قال صلى الله عليه وسلم: يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه و ينسى الجذع أو الجدل في عينه معترضاً. أنظر: السلسلة الصحيحة (1/ 74).
¥