الأمر الثاني: قوة الذاكرة، والذكاء المفرط: فالشيخ - رعاه الله - حافظ العصر في علم الحديث فإذا سألته عن حديث من الكتب الستة، أو غيرها كمسند الإمام أحمد والكتب الأخرى تجده في غالب أمره مستحضرا للحديث سندا ومتنا، ومن تكلم فيه، ورجاله وشرحه.
الأمر الثالث: إغفال مباهج الحياة، وفتنة الدنيا وزينتها، فالشيخ - أعانه الله - متزهد فيها أشد الزهد، وتورع عنها، ووجه قلبه إلى الدار الآخرة، وإلى التواضع والتذلل لله سبحانه وتعالى.
الأمر الرابع: استفاد من مركب النقص بالعينين، إذ ألح على نفسه وحطمها بالجد والمثابرة حتى أصبح من العلماء الكبار، المشار إليهم بسعة العلم، وإدراك الفهم، وقوة الاستدلال وقد أبدله الله عن نور عينيه نورا في القلب، وحبا للعلم، وسلوكا للسنة، وسيرا على المحجة، وذكاء في الفؤاد.
دأب الشيخ الجليل ابن باز في التحصيل وبذل جهده في تحقيق المسائل بالرجوع إلى نطاقها في أمهات الكتب كلما دعت الحاجة إلى ذلك في تدريسه وفيما يعرض له من القضايا المشكلة أيام توليه القضاء، وفي إجابته عما يوجه إليه من أسئلة تحتاج إلى بحث وتنقيب، وفي رده على ما ينشر من أقوال باطلة وآراء منحرفة فازداد بذلك تحصيله ورسوخه، ونبغ في كثير من علوم الشريعة وخاصة الحديث متنا وسندا، والتوحيد على طريقة السلف، والفقه على مذهب الحنابلة، حتى صار فيها من العلماء المبرزين ..
وقد ولى القضاء أول عهده بالحياة العملية أربعة عشر عاما تقريبا ابتداء من 1357 هـ، ثم دعي إلى التدريس بالكليات والمعاهد العلمية في الرياض عام 1372 هـ فكان مثالا للعالم المحقق، المخلص في عمله، فنهض بطلابه، واستفادوا منه كثيرا واستمر على ذلك إلى أن أنشئت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، فعين نائبا لرئيسها العام فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، فأحسن قيادتها والإشراف عليها.
وإلى جانب ما كلف به من أعمال، وحمله من أعباء ومسئوليات، كان ينتهز الفرصة لوعظ الناس، وإرشادهم في المساجد، ويغشى النوادي لإلقاء المحاضرات، ويحرص على قراء الكتب النافعة مع إخوانه، ويستجيب لمن رغب إليه من طلبة العلم في دراسة بعض الكتب عليه، فيحقق لهم أمنيتهم بصدر رحب ورغبة صادقة ..
ومما يحفظ للشيخ رحمة الله عليه وعلى اخوانه العلماء:
عدم التثاقل من السؤال وتوجيه الطالب إلى أراده، وربما توقف عن الإجابة وطلب الإمهال إذا كانت المسألة تحتاج إلى نظر وتأمل، بأن كانت من مواضع الخلاف مثلا، وكان بعيد العهد بها، وفي ذلك كما يقول علماء التربية الحديثة بعث النشاط في همة الطالب وبث روح الثقة بالنفس، وتفتح آمال التحصيل عند الطالب، حيث يشعر أن العلم بالبحث والدرس، وأنه لا يقدم على القول إلا بعد المعرفة التامة .. وفي العقائد كان مثال الاعتدال، لا هو من أولئك المتطرفين الذين يطلقون عبارات الشرك والكفر على كل صغيرة وكبيرة، ولا هو من المتساهلين الذين يغضون النظر عن صغار الأمور بل كان ينبه على الصغيرة والكبيرة، ويضع كل شيء في موضعه، يجعل الشرك شركا والبدعة بدعة، حتى جعله بعض من لقيه من غير المملكة مقياسا عادلا لمبدأ الدعوة ورجالها عدالة واعتدالا، ولم يزل كذلك حتى وهو في علمه الإداري إذا جلس للدرس في المسجد أو غيره.
ثم أسند إلى فضيلته نيابة رئاسة الجامعة الإسلامية من عام 1381 هـ وكان ذلك ولله الحمد نعمة من الله تعالى، خاصة في بدء تكوينها حيث تحتاج إلى التسامح والرفق مع الحزم والحكمة.
وقد وفق الله تعالى لهذه المؤسسة المباركة سيرا حميدا وبدأت ثمار أعمالها تظهر براعم تتفتح، وثمار تينع، نفع الله بها العالم الإسلامي ووفق لها من يساعد على أداء واجبها إنه سميع مجيب.
ولعل كثرة أعمال الشيخ لم تتركه يتفرغ إلى التأليف. غير أنه لم يترك الفرص حيث عنت له وقد أبرز حتى الآن مؤلفات في مختلف الفنون منها:
1 - الفوائد الجلية في المباحث الفرضية طبع عدة مرات.
2 - نقد القومية العربية- طبع- أعيد طبعه.
3 - توضيح المناسك- طبع عدة مرات.
4 - رسالة في نكاح الشغار- طبع.
5 - الجواب المفيد في حكم التصوير- طبع.
6 - رسالة في التبرج والحجاب- طبع. مع عدة فتاوى خاصة وعامة.
ويغلب على مؤلفاته وضوح المعنى، وسهولة العبارة، وحسن الاختيار، مع قوة الحجة والاستدلال، وغير ذلك مما يدل على النصح وصفاء النفس وسعة الأفق والاطلاع، وحدة الذكاء، وسيلان الذهن، وبالجملة فالشيخ قد وهب نفسه للعلم والمتعلمين، وبذل جهده في تحقيق المصالح لمن قصده أو عرف به، مع رحابة صدر، وسماحة خاطر.
فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ونفع الله به وبعلومه، ووفقه لما يحبه ويرضاه آمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم.
الله غايتنا ... الرسول زعيمنا ... القرآن دستورنا ... الجهاد سبيلنا ... الشهادة اسمى امانينا
¥