فتأمل غاية الذلة والمهانة الذي تسبب به وزير السوء ابن العلقمي، وصدق قول القائل في حالهم آنذاك في تفرقهم وتشتتهم:
يا رُبَّ أم وطفل حيل بينهما ... كما تفرق أرواح وأبدان
وطفلة مثل عين الشمس إذ طلعت ... كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة ... والعين باكية والقلب حيران
وكان يوماً عظيماً من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان، فتفرقوا وتمزقوا كل ممزق، واقتسم أولئك التتار النساء، وارتكبوا معهن الفواحش، والناس ينظرون ويبكون ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم شيئا مما نزل بهم، وأضحت البلاد خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس، وقُتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن وتعطلت المساجد والجماعات و الجمعات مدة شهور ببغداد.
وأراد الوزير ابن العلقمي الرافضي قبحه الله ولعنه أن يعطل المدارس والمساجد، ويرفع المشاهد والقبور والأضرحة لمن يزعم أنهم أولياء، ويجعل بغداد مجالا للرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون بها علمهم، والحمد لله أنّ الله لم يقدره على ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة المؤلمة وأتبعه بولده.
ولما انقضى الأمر المقدر، وانقضت الأربعون يوما، بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس! ..
كأنْ لم يكنْ بين الحجونِ إلى الصفا ... أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر
وأصبح القتلى في الطرقات كأنهم التلول، وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت جيفهم، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد غير بغداد فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم بعد ذلك نودي ببغداد بالأمان فخرج من تحت الأرض من كان بالمطامن والمقابر، كأنهم الموتى إذا نُبشوا من قبورهم وقد أنكر بعضهم بعضا فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه!! ولا يُستغرب ذلك، فأربعون يوما وهم مدفونون تحت الأرض، والله المستعان.
ثم بعد ذلك أخذهم الوباء الشديد، فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من شدة الأمراض والوباء، واجتمعوا تحت الثرى، بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.
فجائع الدهر أنواع منوعة ... وللزمان مسرات وأحزان
وللحوادث سلوان يهونها ... وما لما حل بالإسلام سلوان
وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو قاتله الله عن بغداد، في جمادى الأولى من هذه السنة، رحل إلى مقر ملكه، وفوض أمر بغداد إلى الأمين علي بهادر وإلى الوزير الرافضي بن العلقمي الذي لم يمهله الله ولا أهمله، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، فمات جهدا وغما وحزنا وندما، إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.
وقد كان رافضيا خبيثا رديء الطوية على الإسلام وأهله، وقد حصل له من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء، إلا أنه مالأَ الكفار على الإسلام وأهله، وكان نتيجة فعله ما حل بالإسلام وأهله مما تقدم ذكره، ثم حصل له بعد ذلك من الإهانة والذل على أيدي التتار الذين مالأهم، وزال عنه ستر الله، وذاق الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة إن شاء الله أخزى وأشد.
وقد رأته امرأة ذات يوم وهو في الذل والهوان، وهو راكب في أيام التتار على برذون وهو مرسّم عليه، وسائق يسوق به ويضرب فرسه، فوقفت إلى جانبه، وقالت: يا ابن العلقمي أهكذا كان بنوا العباس يعاملونك؟؟!
فوقعت كلمتها في قلبه، وانقطع في داره إلى أن مات كمدا وغبينة وضيقا، وقلة وذلة، ودفن بعد ذلك في قبور الروافض، وقد سمع بأذنيه، ورأى بعينيه من الإهانة والذل على أيدي التتار والمسلمين مالا يحد ولا يوصف.
إخواني: إن هذه القصة تذكر لنا تلك المأساة العظيمة التي تسبب بها وزير السوء ابن العلقمي في سقوط تلك الدولة الفتية دولة بني العباس، التي كان تدين لها مشارق الأرض ومغاربها بالولاء والطاعة، ثم تمالأ عليها إلى أن أسقطها حقدا وضغينة للإسلام وأهله.
إنها حقاً قصة مؤلمة، فإن هذه الدولة لم تنته نهاية على عاديّة، أو زالت من غير ضحايا إنما زالت وخلفت جروحا لا تزول من القلوب ..
يؤرقني حنينٌ وادّكارُ ... وقد خلت المرابع والديارُ
تناءى الظاعنون ولي فؤاد ... يسير مع الهوادج حيث ساروا
حنين مثلما شاء التنائي ... وشوق كلما بعد المزارُ
¥