الصحابة والتابعين، واختلاف العلماء ووفاقهم، وإجماعهم وما اشتهر من جيمع ذلك، سالكا في كل ذلك طريق السلف، قد صرف أوقاته كلها في أنواع العمل، فبعضها للتصنيف، وبعضها للتعليم وبعضها للصلاة، وبعضها للتلاوة والتدبر والذكر لله ـ تعالى ـ وبعضها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال الشيخ قطب الدين موسى اليونيني الحنبلي:
" المحدث الزاهد العابد الورع المفتخر في العلوم، صاحب التصانيف المفيدة، كان أوحد زمانه في الورع والعبادة والتقلل من الدنيا والإكباب على الإفادة والتصنيف مع شدة التواضع، وخشونة الملبس والمأكل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال الكمال جعفر الأدفوي:
إنه صنف تصانيف مفيدة حصل النفع بها، ودارت عليه الفتوى بدمشق.
قال: ومآثره عزيزة عزيرة، ومضى على جميل وسداد.
قال: وكان فقده من أعظم المصائب، وعدمه بليه رمت العباد بسهم من البلاء صائب، رحمه الله ونفعنا ببركته وحشرنا معه في آخرته في دار كرامته.
وقال الحافظ الذهبي:
الشيخ الإمام القدوة الحافظ الزاهد العابد الفقيه المجتهد الرباني، شيخ الإسلام، حسنة الآنام، محيي الدين، صاحب التصانيف التي سارت بها الركبان واشتهرت بأقصى البلدان.
إلى أن قال: لازم الاشتغال والتصنيف محتسبا في ذلك مبتغيا وجه الله ـ تعالى ـ مع التعبد والصوم والتهجد والذكر والأوراد وحفظ الجوارج وذم النفس والصبر على العيش الخشن ملازمة لا مزيد عليها.
قال: وكان ملازمته التامة للعلم ومواظبته لدقائق العمل وتزكية النفس من شوائب الهوى وسيء الأخلاق ومحقها من أغراضها، عارفا بالحديث قائما على أكثر متونه عارفا برجاله رأسا في نقل المذهب، متضلعا من علوم الإسلام.
وقال اليافعي:
شيخ الإسلام، مفتي الآنام، المحدث المتقن المدقق النجيب الحبر المفيد القريب والبعيد، محرر المذهب وضابطه ومرتبه، أحد العباد الورعين الزهاد العالم العامل، المحقق الفاضل، الولي الكبير، السيد الشهير، ذو المحاسن العديدة والسير الحميدة والتصانيف المفيدة، الذي فاق جميع الأقران، وسارت بمحاسنه الركبان واشتهرت فضائله في سائر البلدان، وشوهدتن له الكرامات وارتقى في أعلى المقامات، ناصر السنة، ومتعمد الفتاوى، ذو الورع الذي لم يبلغنا مثله عن أحد في زمانه ولا قبله.
قال: ولقد بلغني أنه كان يجري دمعه في الليل ويقول:
لئن كان هذا الدمع يجري صبابة على غير ليلى فهو دمع مضيع
قال: وقد رأيت له مقامات تدل على عظم شأنه، ودوام ذكره لله ـ تعالى ـ، وحضوره وعمارة أوقاته، وشدة هيبته، وتعظيم وعده ووعيده.
وقال الحافظ ابن كثير
الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ المذهب، وكبير الفقهاء في زمانه، ومن حاز قصب السبق دون أقرانه، وكان من الزهادة والعبادة والتحري والورع والامتنان على الناس والتخلي لطلب العلم، والتحلي به على جانب لا يقدر عليه غيره، ولا يضيع من أوقاته.
وقال تاج الدين السبكي رحمه الله:
كان يحيى ـ رحمه الله ـ سيدا حصورا، وليثا على النفس هصورا، وزاهدا لم يبال بخراب الدنيا إذا صير دينه ربعا معمورا، له الزهد والقناعة، ومتابعة السالفين من أهل السنة والجماعة، والمصابرة على أنتواع الخير، لا يصرف ساعة في غير طاعة هذا مع التفنن في أصناف العلوم فقهاء، ومتون أحاديث وأسماء الرجال ولغة وتصوفا وغير ذلك.
أسباب نبوغه وتقدمه
قال الأستاذ أحمد عبد العزيز قاسم:
من المستحسن أن فصل القول في تكون هذه الشخصية الفذة وبعد استيعاب ترجمته رأيت أن العوامل التي كونتها تنحصر في نوعين:
النوع الأول: عوامل عادية تجري على أمثاله من طلاب العلم غير أنها تختلف من شخص لآخر من حيث التطبيق كاختلافهم في المقاصد والغايات.
وهي:
رحلته لطلب العلم & حلوله بالمدرسة الرواحية & اجتهاده في طلب العلم & كثرة دروسه وسماعاته & قوة حفظه وكثرة مطالعاته
جلاله شيوخه وعنايتهم به & توفر الكتب لديه & اشتغاله بالتدريس
أما النوع الثاني: فهي عوامل غير عادية، وإنما هي مواهب من الله ـ لمن أراد له من عباده كما قال تعالى " يؤتي الحكمة من يشاء " (البقرة: 269)، ولكن رهن إيتاء الحكمة بتقوى الله ومراقبته حيث قال: " واتقوا الله ويعلمكم الله " (البقرة: 282)
¥