تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

تشعر سلطات القوط بنزول المسلمين في جنوب البلاد إلا بعد أن استقرّت دعائمهم ومكّنوا لأنفسهم على بحر الزقاق، فعبأت قوات سريعة وأرسلتها على عجل للهجوم على المسلمين تحت قيادة (بنج) المعروف باسم (بنشو) في المراجع الأسبانية، ولكن القوط لقوا هزيمة فادحة لم ينج منهم إلا واحد استطاع الهرب والذهاب إلى معسكر لوذريق في أقصى الشمال، ونقل إليه أنباء تلك الكارثة وهجوم المسلمين على البلاد، وكان لوذريق يقيم في مدينة بنبلونة بأقصى الشمال حيث يدير الحرب ضد القبائل البسقاوية، ولذا صمّم العودة سريعا إلى الجنوب والهجوم على المسلمين قبل أن يتوغّلوا في داخل البلاد، وكان لوذريق من أشهر رجال القوط في ميدان الحروب؛ إذ قدّر تماما الخطر الذي أحاط بدولته بسبب نجاح المسلمين في اتخاذ قاعدة لهم عند جبل طارق، وأدرك أنهم جاءوا للفتح وليس للإغارة من أجل السلب والنهب والحصول على المغانم كما راجت الإشاعات بذلك، ومن ثم عمد إلى جمع صفوف القوط لمواجهة المسلمين؛ فاتصل بأبناء غيطشة وصالحهم ليكونوا جميعا يدا واحدة، ولكن أعمال لوذريق في تلك السبيل جاءت متأخرة؛ لأن بيت غيطشة ظلّ على ولائه سرّا للخطة التي وضعها يوليان، ولم ينس ما حلّ به من أذى واضطهاد وتشريد على يد لوذريق، وفي الوقت نفسه ظلّ أبناء هذا البيت في اعتقادهم أن المسلمين لم يأتوا للفتح ولكن للحصول على المغانم مقابل مساعدتهم في القضاء على لوذريق، وزحف لوذريق بجيشه سريعا واحتلّ قرطبة؛ ليحول بين المسلمين وبين الاستيلاء عليها؛ لأنها المفتاح الذي يسيطر على سهول الأندلس الجنوبية الشرقية، ويمكن لصاحبها من الاستقرار في البلاد.

وكان طارق بن زياد يريد فعلا الاستيلاء على قرطبة؛ فقد زحف على هذه المدينة بعد انتصاره في جنوب أسبانيا، وسلك الطريق المارّ بجزيرة طريف (الجزيرة الخضراء) ثم زحف شمالا بعد ذلك حتى اقترب من بحيرة الخندق التي يخترقها نهر صغير يسمى البرباط، وفي ذلك المكان مدينة صغيرة سمّاها المسلمون (بكة) ونسبوا إليها النهر الذي صار يعرف باسم وادي بكة، وحرف بعض المسلمين هذه التسمية إلى وادي لكة، وعند وادي بكة عرف طارق ابن زياد عن طريق عيونه أن لوذريق علم بنبأ الحملة الإسلامية وأنه وصل إلى قرطبة واستولى عليها، كما أنه تابع زحفه جنوبا واتخذ معسكره عند بلدة شذونة في سهل البرباط، وأنه صار بذلك على أهبة القتال، وذكرت بعض المراجع أن جيش القوط بقيادة لوذريق بلغ عدده مائة ألف مقاتل وضمّ عددا عظيما من الفرسان، ويرجح أن هذا العدد مبالغ فيه، وأدرك طارق بن زياد أن العدد الذي معه من جند المسلمين لا يكفي لقتال قوات لوذريق الهائلة؛ ولذا أرسل إلى موسى بن نصير يشرح له الموقف ويطلب إليه إرسال الإمدادات بسرعة، فأمدّه موسى بن نصير بحملة عددها خمسة آلاف مقاتل بقيادة طريف بن مالك الذي قاد أول حركة استطلاعية في أرض أسبانيا، ونقل هؤلاء الجنود مرّة واحدة على سفن الأسطول العربي إلى أسبانيا، ووصلت الإمدادات الإسلامية إلى طارق في اللحظة الحاسمة التي كان القوط على وشك شنّ الهجوم على المسلمين، وأعدّ طارق بن زياد قواته للمعركة، ثم وقف بين جنده خطيبا يحثّهم على الاستبسال في القتال، شأنه في ذلك شأن قادة الفتوح العربية الذين دأبوا على رفع روح جندهم المعنوية بإلقاء خطاب حماسي بينهم قبل نشوب المعركة، وتعتبر خطبة طارق من روائع الأدب العربي، ومما جاء في هذه الخطبة: "أيها الناس! أين المفرّ؟ البحر من ورائكم والعدوّ أمامكم، وليس لكم والله إلا الصبر والصدق، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوّكم، وإن امتدّت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم وتعوّضت القلوب عن رعبها فيكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية؛ فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعا فيها للنفوس أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقّ قليلا استمتعتم بالأرفة الألذّ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير