تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أن هذه الرواية استندت إلى شائعات مغرضة ردّدها القائد مغيث الرومي الذي كان بينه وبين موسى بن نصير سوء تفاهم؛ فانتهز فرصة ذهابه إلى دمشق ليبلغ الخليفة أنباء انتصارات المسلمين وأساء إلى هذا القائد، غير أن المقطوع به هو أن موسى بن نصير عنّف طارقا أو حدث عتاب بينهما؛ لأن طارقا كان قد تقدّم في الفتح أكثر مما ينبغي ولما تثبت أقدام المسلمين في البلاد بعدُ متحديا بذلك أوامر مولاه، لكن موسى كان من الحكمة بحيث أنه سرعان ما اتفق مع طارق واشترك الرجلان اشتركا كاملا في العمل.

واستقرّ رأي كل من طارق بن زياد وموسى بن نصير على القيام بمسح شامل لسائر الأراضي الأسبانية التي لم تفتح بعد، ونشر الإسلام بين ربوعها، وتطيهرها تطهيرا شاملا من جيوب القوط وفلولهم، وأثبت موسى بن نصير بذلك أنه ما زال يولي طارق بن زياد ثقته المطلقة.

وأتبع موسى هذه الخطوة بعمل إداري رائع لتنظيم أحوال البلاد؛ فأمر - وهو في طليطلة - بضرب عملة ذهبية دفع منها رواتب الجند العاملين تحت إمرته، ويعتبر سكّ هذه العملة الذهبية دلالة على سيطرة موسى بن نصير على الأوضاع في تلك البلاد الأوربية الجديدة، وعلى مهارته الفائقة في بناء إدارة عربية مستقرة الأركان في أسبانيا منذ الأيام الأولى للفتح الإسلامي بها، وكانت هذه العملة الذهبية على غرار العملة التي سكّها موسى بن نصير في بلاد المغرب؛ فكان على وجه هذه العملة اسم (محمد رسول الله)، وعلى الوجه الآخر نجمة ذات ثمانية أذرع، وإلى جانب ذلك أمر موسى بن نصير بضرب عملة برنزية صغيرة لمساعدة الناس في تسهيل عملياتهم اليومية.

وبعد أن أتمّ موسى بن نصير تنظيماته الإدارية استأنف الجهاد، واتفق مع طارق ابن زياد على الزحف معا نحو الشمال الشرقي لفتح حوض نهر الإبرو وما فيه من مدن، واشترك طارق مع موسى في هذه الحملة لأن المقاومة الشديدة التي سبق أن أظهرها القوط حملت القيادة الإسلامية على جمع جهودها وتنسيق أعمالها بما يجنب المسلمين الأخطار مرة أخرى.

وقصدت القوات الإسلامية بقيادة موسى بن نصير مدينة سرقسطة، واقتربت منها على حين غفلة من أهلها، وأراد أسقف المدينة ومن معه من الرهبان جمع دخائرهم وكتبهم المقدّسة والفرار بها، غير أن موسى بن نصير بعث إليهم رسولا من قبله أزال مخاوفهم وأعطاهم العهود والمواثيق بالأمان، وبذلك استولى المسلمون على المدينة دون قتال، وشيّدوا بها مسجدا صار فيما بعد أحد المراكز الكبرى لنشر الدين الإسلامي وحضارته في أسبانيا، وقام ببناء هذا المسجد أحد التابعين في جيش موسى بن نصير وهو حنش بن عبد الله السبئي الصنعاني.

الزحف شمالا نحو البرانس:

وتابع موسى زحفه بعد ذلك، واستولى على كثير من المدن الهامة في تلك الجهات، وظلّت القوات الإسلامية تتابع زحفها حتى بلغت مشارف جبال البرت (البرانس)، وشاهد المسلمون سكان تلك الجبال من القبائل البسقاوية (البشكنس)، واستمعوا إلى لغتهم الغريبة التركيب والأصوات.

وفي الوقت الذي كان فيه موسى بن نصير يبذل كل ما لديه من جهد لتأمين ممتلكات المسلمين شمالي مدينة سرقسطة جاءه مندوب الخلافة وهو مغيث الرومي، ومعه أمر من الخليفة الوليد بن عبد الملك لكل من موسى بن نصير وطارق بن زياد بالمجيء إلى البلاط ومقابلته شخصيا في دمشق، ورأى موسى بحنكته الحربية ومقدرته السياسية أن هذا الاستدعاء جاء في وقت غير مناسب؛ لأن مطاردة القوط لم تنته بعد، كما أن فتح البلاد يتطلب السيطرة على المعاقل الشمالية الجبلية، أضف إلى ذلك أن موسى أحسّ أن أمرا قد دبّر له في دمشق، ويحتمل أن هذا التدبير هو السرّ في استدعائه إلى عاصمة الخلافة، ولذلك ألَحّ على مغيث الرومي أن يؤجل تنفيد طلب الاستدعاء حتى ينتهي من العمليات الحربية، ومنحه قصرا في قرطبة يقيم فيه ريثما يفرغ المسلمون من مهمّتهم. وتقدّم موسى بقواته نحو مدينة قشتاله؛ لأنها تعتبر المركز المباشر الذي يمكن أن يهدّد منه القوط مدينة طليطلة وغيرها من البلاد الإسلامية، ثم إن اقترابها من الجهات الجبلية الوعرة يساعد من يتحصن بها على أن يبقى على المقاومة زمنا طويلا، ولذا قسّم موسى بن نصير قواته قسمين عهد بواحد منهما إلى طارق بن زياد وجعل مهمته السير غربا، على حين قاد هو الشطر الثاني واتجه في البلاد شرقا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير